الحمد لله.
الوقف على الأولاد جائز، وله صورتان:
الأولى:
أن يكون وقفا منجّزا أي في الحال، غير معلق، فيجوز أن يقف على أولاده ماله كله، بشرط ألا يقصد بذلك حرمان أحد من الورثة.
ويستحب أن يسوي بين أولاده في الوقف، ولا يجب.
قال ابن قدامة رحمه الله : "والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى؛ لأن القصد القُربة على وجه الدوام، وقد استووا في القرابة.
ولنا : أنه إيصال للمال إليهم، فينبغي أن يكون بينهم على حسب الميراث، كالعطية، ولأن الذكر في مظنة الحاجة أكثر من الأنثى؛ لأن كل واحد منهما في العادة يتزوج، ويكون له الولد، فالذكر تجب عليه نفقة امرأته وأولاده، والمرأة ينفق عليها زوجها ولا يلزمها نفقة أولادها، وقد فضل الله الذكر على الأنثى في الميراث على وفق هذا المعنى، فيصح تعليله به ، ويتعدى إلى الوقف وإلى غيره من العطايا والصلات.
وما ذكره القاضي : لا أصل له، وهو ملغى بالميراث والعطية.
فإن خالف فسوى بين الذكر والأنثى، أو فضلها عليه، أو فضل بعض البنين، أو بعض البنات على بعض، أو خص بعضهم بالوقف دون بعض؛ فقال أحمد، في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأَثَرة، فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال ، وبه حاجة. يعني : فلا بأس به.
ووجه ذلك أن الزبير خص المردودة من بناته، دون المستغنية منهن ، بصدقته.
وعلى قياس قول أحمد، لو خص المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه، تحريضا لهم على طلب العلم، أو ذا الدين دون الفساق، أو المريض، أو من له فضل من أجل فضيلته، فلا بأس.
وقد دل على صحة هذا أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا، دون سائر ولده، وحديث عمر، أنه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدث به حدث، أن ثمغا وصرمة ابنِ الأكوع [مالان كانا لعمر رضي الله عنه] والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، الذي أطعمه محمد - صلى الله عليه وسلم – بالوادي: تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه. رواه أبو داود.
وفيه دليل على تخصيص حفصة دون إخوتها وأخواتها" انتهى من "المغني" (6/ 18).
فإن قصد بالوقف على أولاده، حرمان وارث كزوجته مثلا، حرم ذلك، ويسمى "التوليج". وهو من الحيلة المحرمة التي يتوصل بها إلى إبطال الحق.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: " لَيْسَ من أَخْلَاق الْمُؤمنِينَ الْفِرَار من أَحْكَام الله بالحيل الموصلة إِلَى إبِطَال الْحق" نقله العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (24/ 109).
الصورة الثانية:
أن يكون الوقف مُعلقا على موته، بأن يقول: إذا مت فمالي وقف على أولادي، فهذا جائز عند الجمهور، وله حكم الوصية، فيتقيّد بالثلث.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " أما الوقف المعلق بالموت، كما لو قال: هذا وقف بعد موتي، فالمذهب: أنه لازم من حين قوله، ولا يمكن فسخه، لكن مع ذلك لا ينفذ منه إلا ما كان من ثلث المال، فأقل .
فيجعلونه وصية من وجه، ووقفاً من وجه، وهذا غير صحيح، فلا يمكن أن نعطي عقداً حكمين مختلفين، فإما أن نقول: إنه يلزم في الحال ، ونلغي التعليق، وإذا قلنا بأنه يلزم في الحال: لزم، سواء كان الثلث أو أكثر أو أقل.
وإما أن نقول: لا يلزم إلا بعد الموت، وحينئذٍ يكون من الثلث، فأقل، وهذا هو الصحيح؛ لأن الرجل علق الوقف بشرط ، وهو الموت، فلا يمكن أن ينفذ قبل وجود الشرط، فلا ينفذ إلا بعد الموت ، ويكون من الثلث فأقل.
مثال ذلك: قال رجل: إذا مت فبيتي وقف، أو إذا مت فمكتبتي وقف، فالمذهب أنه ينفذ من الآن، ولا يمكن أن يبيع شيئاً من هذا؛ لأنه نفذ، لكن إذا مات : فإن أجاز الورثة الوقف : نفذ، وإن لم يجيزوه : لم ينفذ منه إلا مقدار ثلث التركة.
والصواب: أنه لا ينفذ إلا بعد الموت، وأنه ما دام حياً ، فله التغيير والتبديل والإلغاء.
فإذا مات : فإن أجازه الورثة : نفذ، وإن لم يجيزوه، نفذ منه قدر ثلث التركة فقط" انتهى من "الشرح الممتع" (11/ 57).
والله أعلم.