الحمد لله.
أولا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهْلُ الجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ لَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ رواه الترمذي (2539) والإمام أحمد في "المسند" (13 / 315)، وحسّنه محققو المسند بطرقه وشواهده، وكذا الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (6 / 1224).
ثانيا:
الجنة دار النعيم الكامل، وأهلها أعطوا من الصفات الخلقية ما يوافق كمال تنعمهم بهذا النعيم.
قال الله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ العنكبوت/64.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه تعالى:
" وأما الدار الآخرة، فإنها دار ( الْحَيَوَانُ ) أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشدة، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات، من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 635).
والله سبحانه بخلقه أهل الجنة جردا ومردا ، فلا شك أن هذه الصفات هي الملائمة لتنعّمهم بالجنة؛ فالله تعالى هو الخالق لها والعالم بما يستحسنه أهلها، ولعل من حكمة ذلك ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأما شعر اللحية ففيه منافع ، منها : الزينة والوقار والهيبة ، ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء والسِّناط [هو الرجل الذي لا لحية له] ، من الهيبة والوقار ، ما يرى على ذوي اللحى، ومنها : التمييز بين الرجال والنساء.
فإن قيل: لو كان شعر اللحية زينة ، لكان النساء أولى به من الرجال، لحاجتهن إلى الزينة، وكان التمييز يحصل بخلو الرجال منه، ولكان أهل الجنة أولى به، وقد ثبت أنهم جرد مرد؟
قيل: الجواب : أن النساء لما كن محل الاستمتاع والتقبيل، كان الأحسن والأولى خلوهن عن اللحى، فإن محل الاستمتاع إذا خلا عن الشعر كان أتم؛ ولهذا المعنى -والله أعلم- كان أهل الجنة مردا، ليكمل استمتاع نسائهم بهم، كما يكمل استمتاعهم بهن.
وأيضاً : فإنه أكشف لمحاسن الوجوه، فإن الشعر يستر ما تحته من المحاسن، فصان الله محاسن وجوههم عمّا يسترها.
وأيضا : ليكمل استمتاعهم بنسائهم؛ فإن الشعر يمنع ما تحته من البشرة أن يمس بشرة المرأة، والله أعلم بحكمته في خلقه " انتهى من "التبيان" (ص 474 - 476).
وعلى كل؛ فاقتراح أن هذا النوع من النعيم قد لا يلائمك، هو استدراك على علم الله تعالى لا يليق بالمسلم أن يقع فيه ، وهو المعتقد بأن الله عالم بما كان وما سيكون.
ثم هذا الاقتراح متصور في هذه الحياة الدنيا التي امتحن الله فيها عباده باختلاف الأمزجة والأهواء، أما الحياة الآخرة فهي الحياة الكاملة لا يتلبس أهلها بالنواقص؛ فهي دار السلام؛ فلا يصح أن يقاس مزاج الإنسان في هذه الدنيا دار الحياة الناقصة، على مزاجه في الجنة دار الحياة الكاملة؛ وهما حياتان مختلفتان؛ فهذا من القياس الفاسد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والغلط في "القياس" يقع من تشبيه الشيء بخلافه، وأخذ القضية الكلية باعتبار القدر المشترك من غير تمييز بين نوعيهما، فهذا هو "القياس الفاسد" كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، وقياس إبليس – أي فيما حكاه الله عنه ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )-،. ونحو ذلك من الأقيسة الفاسدة التي قال فيها بعض السلف: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. يعني: قياس من يعارض النص ، ومن قاس قياسا فاسدا، وكل قياس عارض النص فإنه لا يكون إلا فاسدا، وأما القياس الصحيح فهو من الميزان الذي أنزله الله، ولا يكون مخالفا للنص قط، بل موافقا له " انتهى من "مجموع الفتاوى" (6 / 299 – 300).
ثالثا:
الثابت أن المسلم في الجنة يعطى ما يرغب فيه.
كما في قول الله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ فصلت/31.
وكقوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ق/35.
لكن لا يستدل بهذا على ما تشتهيه أنفس أهل الدنيا؛ وإنما السياق عمّا تشتهيه أنفس أهل الجنة الشريفة المطهرة السالمة من عيوب أهل الدنيا وتقلب أمزجتهم؛ وكذا هذا الاشتهاء وإن كان مطلقا في ظاهر اللفظ، إلا أنه مقيد بما يوافق كمال التنعم في الجنة، وهذا ما يقتضيه سياق الآيات، وتقتضيه عقيدة الإسلام عن الجنة وشرفها، وشرف أخلاق أهلها.
والحاصل :
أنه لا يصح قياس ما في الجنة من نعيم ، على ما يتمناه الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، فإن لكل دار منهما أحكامها الخاصة بها ، ونعيمها الخاص بها .
وليكن قصدك، وهمك، وسعيك، وشغلك الشاغل، يا عبد الله : فيما يبلغك جنة رب العالمين ورضوانه، وينزل المنازل العالية فيها ، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأقوال الصادقة الناصحة؛ ثم تلزم ذلك كله، وتحمل نفسك عليه، وترغبها فيه، وتديمه دهرك كله، على رجاء أن يمن الله عليك بجنته ورضوانه؛ فإذا دخلت هناك، فلا تسأل عن النعيم؛ فإن داخلها: ينعم، ولا يبأس أبدا، ويحل الله عليهم رضوانه، ويرضيهم.
والله أعلم.