الحمد لله.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحلف بغير الله تعالى.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَلاَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلَّا بِاللَّهِ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ رواه البخاري (3836) ومسلم (1646).
وفي رواية للبخاري (2679) ، ومسلم (1646): أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة ، منهي عنها ؛ لا يجوز الحلف بها لأحد " انتهى من "التمهيد" (14 / 367).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فأما "الحلف بالمخلوقات" كالحلف بالكعبة، أو قبر الشيخ، أو بنعمة السلطان، أو بالسيف، أو بجاه أحد من المخلوقين: فما أعلم بين العلماء خلافا أن هذه اليمين مكروهة منهي عنها، وأن الحلف بها لا يوجب حنثا ولا كفارة. وهل الحلف بها محرم أو مكروه كراهة تنزيه؟
فيه قولان في مذهب أحمد وغيره: أصحهما أنه محرم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (35 / 243).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" – ومن الكبائر- الحلف بغير الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله، فقد أشرك )، وقد قصّر ما شاء أن يقصر من قال: إن ذلك مكروه، وصاحب الشرع يجعله شركا ؛ فرتبته فوق رتبة الكبائر" انتهى من "إعلام الموقعين" (6 / 571 - 572).
والحديث المذكور، هو ما رواه ابْن عُمَرَ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ) رواه أبو داود (3251) والترمذي (1535) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ "، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (8 / 189).
وهذا الشرك قد يكون أكبر، وقد يكون أصغر محرّما لكن لا يخرج صاحبه من دائرة الإسلام.
فيكون شركا أكبر: إن جعل المقسم به بمنزلة الله في التعظيم والقدرة على النفع والضر؛ كما يفعل بعض عباد القبور من قسمهم بصاحب القبر واعتقادهم أن له قدرة على التصرف بالضر والنفع الغيبي فيجعلونه شهيدا على صدقهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" فإن اعتقد في المحلوف به ، من التعظيم ، ما يعتقده في الله : حرم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافرا ، وعليه يتنزل الحديث المذكور " انتهى من "فتح الباري" (11 / 531).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" القسم -الذي- يفهم إجلال الحالف للمحلوف به، واعتقاده أن له سطوة غيبية ، بحيث ينال الحالف النفع الغيبي إذا وفى وصدق، وأنه إن لم يف أو يصدق نالته عقوبته ، ونال المحلوف له النفع الغيبي بإيفائه حقه إن كان له حق...
ونحوه الحلف بالصنم يفهم احترام الحالف له واعتقاده أن له سطوة غيبية ...
إذا ثبت هذا ، فقد ثبت أن القَسَم من هذا الضرب : خضوع وتعظيم للمقسم به ، يطلب به نفع غيبي للحالف ، أو للمحلوف له على فرض، وهذا الخضوع والتعظيم هو العبادة كما مر تحقيقه، والعبادة إذا لم ينزل الله تعالى بها سلطانا فهي عبادة لغير الله ، وعبادة غير الله كفر وشرك " انتهى من "آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (3 / 1018).
ويكون الحلف بغير الله تعالى شركا أصغر إذا لم يصل إلى مثل هذا التعظيم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" والحلف بغير الله شرك أكبر؛ إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا ؛ فهو شرك أصغر " انتهى من "القول المفيد" (2 / 214).
وجاء "فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى" (23 / 56):
" الحلف بالأمانة : فهو حلف بغير الله، والحلف بغير الله شرك أصغر، ومن أكبر الكبائر؛ لما روى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " لئن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ".
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن سليمان بن منيع ، عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ، عبد الرزاق عفيفي " انتهى.
ثانيا:
عن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللهِ، قال: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ ، وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ ، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ! لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ رواه مسلم (11).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ: أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ رواه مسلم (1032).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ رواه مسلم (2548)، ثم ساق رواية بعدها، فيها زيادة: " فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ .
فهذه الأحاديث وردت صيغة القسم بالآباء.
وقد أجاب أهل العلم عنها بأجوبة عدة:
فبعض أهل العلم ذهب إلى أن هذه الألفاظ ( وَأَبِيهِ ) و (وَأَبِيكَ) ضعيفة لا تصح ، أخطأ من أدخلها في هذه الأحاديث.
كقول ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى:
" فإن احتج محتج بحديث يروى عن إسمعيل بن جعفر، عن أبي سهيل نافع بن مالك بن ابن أبي عامر، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله - في قصة الأعرابي النجدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفلح وأبيه إن صدق ).
قيل له: هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث ، من حديث من يحتج به، وقد روى هذا الحديث مالك وغيره عن أبي سهيل لم يقولوا ذلك فيه، وقد روي عن إسمعيل بن جعفر هذا الحديث وفيه: ( أفلح والله إن صدق )، ( أو دخل الجنة والله إن صدق )، وهذا أولى من رواية من روى ( وأبيه ) لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، وبالله التوفيق " انتهى من "التمهيد" (14 / 367).
وقد بسط الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بيان عدم صحة ورود هذه الألفاظ داخل هذه الأحاديث، وهذا في كتابه "السلسلة الضعيفة" (10 / 750 - 768).
وعلى القول بصحتها؛ فالسياق والمقام يؤكد أنها لم ترد على سبيل القسم ، الذي يفيد تعظيم المقسم به.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم بأبيه "عبد الله"، فلم يقل "بأبي" حتى ترد شبهة القسم، وأنه ذكره معظما له لحق الأبوة، وإنما ذكر أب المخاطب ، وهو في غالب الظن مشرك؛ فلا تتطرق شبهة تعظيمه أصلا، وإنما هي صيغة من صيغ توكيد الكلام ، جرت عليها العرب من غير قصد القسم ، كما يقولون : ويحك ، وويلك ، وثكلتك أمك ، ولا يقصدون حقيقة معنى هذه الألفاظ .
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( أفلح وأبيه ) : هذه كلمة جارية على ألسن العرب ، تستعملها كثيرا في خطابها ، تريد بها التوكيد...
والعرب قد تطلق هذا اللفظ في كلامها على ضربين؛ أحدهما: على وجه التعظيم، والآخر على سبيل التوكيد للكلام ، دون القسم . قال ابن ميادة:
أظنت سِفاها من سَفاهة رأيها ... لأهجوها لما هجتنى محارب
فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... ونفسيَ عن ذاك المقام لراغب
وليس يجوز أن يقسم بأب من يهجوه ، على سبيل الإعظام لحقه " انتهى من"معالم السنن" (1 / 121).
وقال النووي رحمه الله تعالى:
" قوله صلى الله عليه وسلم: ( أفلح وأبيه ) ليس هو حلفا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها ، غير قاصدة بها حقيقة الحلف. والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المحلوف به ، ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى ؛ فهذا هو الجواب المرضي " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (1 / 168).
فالحاصل؛
أن هذه الألفاظ مختلف في صحتها؛ وليست صريحة في القسم، فلا يصلح أن يعارض بها أحاديث النهي عن القسم بغير الله تعالى ، الصحيحة الصريحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فقد ثبت بالنُّصوص الصَّحيحة الصَّريحة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنَّه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصَّالحين وغيرهم " انتهى من"مجموع الفتاوى" (1 / 291).
ثالثا:
إذا أقسم المسلم بغير الله تعالى ذاهلا غير متعمد، كمن عاش زمنا غير ملتزم بأحكام الشرع، ثم تاب إلى الله تعالى، فقد يسبق على لسانه -ما تعوده قبل توبته- من غير عمد؛ فهذا غير مؤاخذ عليه، ويدل لهذا؛ إطلاق قول الله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ البقرة /225 .
وقول الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ البقرة /286 .
قال الشيخ محمد الامين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا؟
وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الآية، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله: ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك...
وقد ثبت في "صحيح مسلم": ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، قال الله تعالى: نعم ) " انتهى من"أضواء البيان" (1 / 312).
والله أعلم.