الحمد لله.
أولًا :
الأصل ألا يحرج الإنسان غيره بالسؤال بهذه الطريقة ، فعلى الإنسان أن يطلب ما أراده بدون أن يقول : بالله ، أو: بوجه الله ، ونحو هذا لئلا يوقع نفسه وغيره في الحرج .
ثانيًا :
سبق في جواب السؤال رقم: (153727) بعض الأحاديث الواردة في إجابة السائل بالله ، كحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ ، رواه أبو داود (رقم/1672)، وصححه النووي في " المجموع " (6/254)، والألباني في " صحيح أبي داود" ، وغيره .
وقلنا : إن قواعد الشرع وأدلته الثابتة المجمع عليها تقرر أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ، وأن كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، والله عز وجل يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا النساء/29.
لذلك ذهب عامة أهل العلم إلى تقييد الأحاديث السابقة - التي تذم مَن سُئل بالله ولم يُجِب - بقواعد الشريعة المجمع عليها ، وجمعوا بين النصوص جميعا على ضوء قواعد أصول الفقه ومقاصد الشريعة على أوجه عدة :
الوجه الأول : أن يقال بكراهة عدم إعطاء من سأل بالله ، وليس بالحرمة ، وتفسير الأحاديث السابقة بحملها على قصد الذم والتنفير ، وليس التحريم .
الوجه الثاني: أن يقال بأن السائل المضطر – الذي وقع في حال الضرورة – هو الذي تجب إجابته إذا سأل بالله ، أما غيره فتستحب ولا تجب .
الوجه الثالث: أن يقال : إن الحديث الأول : ( فأعطوه ) الأمر فيه للندب ، والحديث الثاني ( يسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطي بِهِ ) ضبطه الصحيح هو ( يَسأَلُ بالله ولا يُعطِي به ) فالمذموم هو الذي جمع بين الأمرين : يسأل بالله الناس ، ولكنه إذا سئل بالله لا يعطي به ، ولا شك أن هذا الفعل مذموم قد يصل إلى درجة التحريم .
بل يحتمل الحديث أيضا أن يُضبط على الوجه الآتي : ( يَسألُ بالله ولا يُعطَى به ) بمعنى أن المذموم هو الذي يسأل بالله تعالى ، فالسؤال بالله مذموم ، ثم رغم وقوعه في هذا المذموم لا ينال به شيئا ، فلا يعطيه الناس بسؤاله ، فيعرض نفسه للمذلة ، ويعرِّض اسم الله تعالى لعدم الإجابة .
وذكرنا أدلة كل قول من أقوال أهل العلم .
وعليه ؛ فلا حرج أن يترك الإنسان عطاء من سأل بهذه الألفاظ ، وإن كان من الأفضل أن يعطيه ما سأل إن كان لا حرج منه .
ثالثًا :
ويكره سؤال شيء من الدنيا بوجه الله ، لأن الله أجل من أن يُسأل بوجهه شيء من حطام الدنيا ، وفي الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" (1671) عن جابرٍ قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -: لا يُسأل بوجْه الله إلا الجنَّةُ .
قال "الطيبي" في "شرح المشكاة" (5/ 1566) : " هذا يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون معناه لا تسألوا من الناس شيئًا بوجه الله مثل أن تقولوا لأحد : يا فلان أعطني شيئًا بوجه الله ، أو بالله ؛ فإن اسم الله تعالي أعظم من أن يُسأل به شيء من متاع الدنيا ، بل اسألوا به الجنة.
والثاني: لا تسألوا الله شيئاً من متاع الدنيا، بل سلوا الله رضاه والجنة، فإن متاع الدنيا لا قدر له ".
وقد نص الفقهاء على "كراهة" ذلك ، قال "الهيتمي" في "تحفة المحتاج" (7/ 179) : " وَقَدْ أَطْلَقُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤَالُ مَخْلُوقٍ بِوَجْهِ اللَّهِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ السُّؤَالَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَجْهِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْوَجْهُ بِمَعْنَى الذَّاتِ فَتَسَاوَيَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذِكْرَ الْوَجْهِ فِيهِ مِنْ الْفَخَامَةِ مَا يُنَاسِبُ أَنْ لَا يُسْأَلَ بِهِ إلَّا الْجَنَّةُ بِخِلَافِ مَا إذَا حُذِفَ، وَيَظْهَرُ أَنَّ سُؤَالَ الْمَخْلُوقِ بِوَجْهِ اللَّهِ مَا يُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ كَتَعْلِيمِ خَبَرٍ لَا يُكْرَهُ، وَأَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ بِوَجْهِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا يُكْرَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ " انتهى .
وقال "الخطيب الشربيني" في "مغني المحتاج" (4/ 198) : " يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ غَيْرَ الْجَنَّةِ، وَأَنْ يَمْنَعَ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِاَللَّهِ، وَتَشَفَّعَ بِهِ، لِخَبَرِ: لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ وَخَبَرِ: مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ لَكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد "، انتهى .
وانظر جواب السؤال رقم : (12310).
والله أعلم.