حكم قول إن صيام الشخص ناقص لمعاملته التجارية التالية : الرجل يشتري الإسمنت من محل البائع، ويتركها عنده، ولا يأخذها، وذلك عندما يكون السعر منخفضا، ولا يخفى عليك أن الإسمنت متوترة السعر، تزيد وتنقص، فما حكم أخذها في الوقت الذي تكون مرتفعة السعر؟ مع العلم أن الأكياس ليست نفسها، لأن الإسمنت سريعة التلف، وكأن المشتري يقصد أن البيع جرى وتم؟ وهل هذا البيع جائز؟
الحمد لله.
هذه المعاملة تقع على صورتين:
الأولى: أن يشتري أسمنتا معينا، ويفرزه من أسمنت البائع، ثم يتركه عنده، إلى أن يرتفع السعر فيأخذه ليبيعه مثلا، فهذا لا حرج فيه إذا رضي البائع بإبقائه عنده، بشرط أن يأخذ عين ما اشترى، ولا يأخذ غيره.
وهذه الصورة ليست متحققة هنا لأن البيع لا يتم على أكياس معينة ، كما في نص السؤال، وكما هو الواقع المعلوم في مثل ذلك .
الثاني: أن يشتري أسمنتا موصوفا في الذمة، كأن يشتري 100 كيسا من النوع الفلاني، -وليس أكياسا معينة-، ويدفع الثمن كاملا في مجلس العقد، فهذا يسمى عقد السلَم.
ولكن يشترط لصحة السلم : أن يحدد أجل التسليم، كأن يتفقا على التسليم بعد شهر ، أو شهرين أو خمسة ، أو ستة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ رواه البخاري (2241)، ومسلم (1604).
وأما أن يكون الأجل مجهولا، أو إلى أن يرتفع السعر، فلا يصح السلم.
قال ابن قدامة في "المغني" (4/ 218) في شروط السلم: " (إلى أجل معلوم بالأهلة) وهذا الشرط الرابع، وهو أن يكون مؤجلا أجلا معلوما.
وفي هذه المسألة فصول ثلاثة:
أحدها: أنه يشترط لصحة السلم كونه مؤجلا...
الفصل الثاني: أنه لا بد من السلم كون الأجل معلوما السلم؛ لقوله تعالى: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى [البقرة: 282] . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إلى أجل معلوم ".
ولا نعلم في اشتراط (العلم) ، في الجملة، اختلافا .
فأما كيفيته : فإنه يحتاج أن يعلمه بزمان بعينه لا يختلف، ولا يصح أن يؤجله بالحصاد والجزاز وما أشبهه.
وكذلك قال ابن عباس، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن المنذر.
وعن أحمد، رواية أخرى، أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وبه قال مالك وأبو ثور وعن ابن عمر: أنه كان يبتاع إلى العطاء. وبه قال ابن أبي ليلى.
وقال أحمد: إن كان شيء يُعرف: فأرجو، وكذلك إن قال: إلى قدوم الغزاة.
وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء؛ لأن ذلك معلوم، فأما نفس العطاء: فهو في نفسه مجهول؛ يختلف ، ويتقدم ويتأخر.
ويحتمل أنه أراد نفس العطاء؛ لكونه يتفاوت أيضا، فأشبه الحصاد.
واحتج من أجاز ذلك، بأنه أجل يتعلق بوقت من الزمن، يعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتا كثيرا، فأشبه إذا قال: إلى رأس السنة" انتهى.
والحاصل:
أنه لا بد من العلم بالأجل عند الجمهور، وإنما حصل الخلاف في التأجيل إلى الحصاد ونحوه لأن وقته معلوم غالبا؛ فلذلك رخص فيه من رخص من أهل العلم.
والعقد الفاسد يحرم الدخول فيه، ولا يفيد الملك.
وأما نقصان الصيام، فمن حيث العموم: المال الحرام له أثر في عدم قبول العبادات؛ النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَام؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ رواه مسلم (1015).
قال ابن رجب رحمه الله: "وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله، فإنه قال، بعد تقريره أن الله لا يقبل إلا طيبا: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [المؤمنون: 51] وقال: ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم [البقرة: 172] ).
والمراد بهذا: أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالا، فالعمل الصالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال، فكيف يكون العمل مقبولا؟
وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1/ 260).
والله أعلم.