الحمد لله.
أولًا :
اتسعت الفتوحات في عهد عثمان رضي الله عنه، واتسعت معها حاجة الناس إلى المصاحف، وكان القرآن يُؤخذ بالتلقي، يأخذه الآخر عن الأول، فلما اتسعت الفتوحات أخذ الناس من المصاحف مباشرةً، فحصل بينهم اختلاف في القرآن، أدى إلى تجديد فكرة جمع القرآن مرة أخرى، مع تغير في منهج الجمع .
عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان، "قدم على عثمان وكان يُغازي أهل الشأم في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة .
فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى .
فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم .
ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق".
رواه البخاري: (4987).
ففي هذا الحديث بيان لقضية جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، وقد تم في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين، وقام الجمع على خطوات محددة، وهي:
1- أن سبب الجمع: اختلاف الناس في القراءة .
2- أن الذي أشار به: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه .
3- أن لجنة الجمع تكونت من: زيد بن ثابت الأنصاري، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وأبي بن كعب .
4- وكان مقصد الجمع: نسخ مصحف أبي بكر رضي الله عنه في عدد من المصاحف، عبر منهج معين، وإرسال قارئ مع كل نسخة، ليُقرئ أهلَ المصر الذين أرسل إليهم .
5- أن منهج الجمع: نسخ مصحف أبي بكر في عدد من المصاحف، وأن يكتب بلسان قريش عند الاختلاف، وأن يحرق ما عدا هذه المصاحف .
وبعد أن تم نسخ الـمصاحف العثمانية، بالكيفية التي أوضحناها سابقًا، أمر أمير الـمؤمنين عثمان بن عفان بإرسالها إلى الأقطار الإسلامية الشهيرة، وأرسل مع كل مصحف مُقرئًا من الذين توافق قراءته في أغلبه قراءة أهل ذلك القطر، وذلك لأن التلقي أساس في قراءة القرآن .
وأمر أن يحرق كل ما عداها من الصحف أو المصاحف الشخصية الـموجودة لدى الصحابة مما تخالفها؛ ليستأصل بذلك سبب الخلاف والنزاع بين الـمسلمين في قراءة كتاب الله، فاستجاب لذلك الصحابة رضي الله عنهم، فجمعت الـمصاحف والصحف، وحرقت، أو غسلت بالـماء .
وقد رضي الصحابة بهذا العمل، فعن علي رضي الله عنه قال: "رحم الله عثمان، لو وليته؛ لفعلت ما فعل في المصاحف".
وعن مصعب بن أبي وقاص قال: "أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك"، أو قال: "لم يعب ذلك أحد".
انظر: فتح الباري: (9/ 17)، "النشر"(1/ 7)، "فضائل القرآن"، لأبي عبيد(284)، "تاريخ المدينة" لابن شبة(3/ 1004).
ثانيًا :
تبين أن عثمان رضي الله عنه جمع القرآن بأدق وسائل التثبت والنقل ، فلم يكتف بالمحفوظ، بل أضاف إليه المكتوب .
وأما ما رواه أبو داود في "المصاحف" (101) عن مصعب بن سعد قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: " إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن، عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لَمَا أتاني به .
فجعل الرجل يأتيه باللوح، والكتف والعسب فيه الكتاب، فمن أتاه بشيء قال: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: أي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، ثم قال: أي الناس أَكْتَبُ؟ قالوا: زيد بن ثابت . قال: فليكتب زيد ، وليمل سعيد .
قال: وكتب مصاحف فقسمها في الأمصار، فما رأيت أحدا عاب ذلك عليه " .
وأورده أبو شامة في "المرشد الوجيز" (58)، ثم علق عليه قائلًا:
" وأما ما روي أن عثمان جمع القرآن أيضا من الرقاع كما فعل أبو بكر ، فرواية لم تثبت ، ولم يكن له إلى ذلك حاجة ، وقد كُفِيه بغيره ، فالاعتماد على ما قدمناه أول الباب من حديث صحيح البخاري ، وإنما ذكرنا ما بعده زيادة كالشرح له ، وجمعًا لما روي في ذلك .
ويمكن أن يقال : إن عثمان طلب إحضار الرقاع ممن هي عنده ، وجمع منها ، وعارض بما جمعه أبو بكر ، وعارض بتلك الرقاع ، أو جمع بين النظر في الجميع حالة النسخ ، ففعل كل ذلك أو بعضه ، استظهارًا ودفعًا لوهم من يتوهم خلاف الصواب ، وسدًّا لباب القالة : إن الصحف غُيرت أو زيد فيها ونقص"، انتهى من "المرشد الوجيز" (76).
فلو ثبت أن عثمان جمع الرقاع ، فإنه من باب التأكد وزيادة الاحتياط لا الشك .
ثالثًا :
وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما ، فيما رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (320) : " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَدْ أَخَذْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلَّهُ؟ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهُ مَا ظَهْرَ مِنْهُ " .
وأخرجه "سعيد بن منصور" في "التفسير من السنن" ، (2/ 432).
فالمقصود منه ؛ منسوخ التلاوة ، وقد بوب عليه أبو عبيد : " بَابُ مَا رُفِعَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ نُزُولِهِ ، وَلَمْ يُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ ".
وقال "الآلوسي" في "روح المعاني" : " أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآنا ، كما هو موجود بين الدفتين اليوم، نعم أُسقط زمن الصديق ما لم يتواتر، وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ ، وما لم يكن في العرضة الأخيرة ، ولم يأل جهدا رضي الله تعالى عنه في تحقيق ذلك. إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين ؛ فلهذا نسب إليه ...
وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر .." انتهى من "روح المعاني" (1/ 26).
قال محقق سنن "سعيد بن منصور" (2/ 433) : " علق محقق "فضائل القرآن" لأبي عبيد، - أثابه الله - على هذا الأثر بتعليق نفيس، نفى فيه ما يتبادر للذهن منه؛ من ضياع شيء من القرآن، فقال: (ص285) :
"هذا الأثر نقله السيوطي في "الإتقان" (2 / 25) ، وسكت عنه، مع أن ظاهره يفيد ضياع جزء كبير من القرآن. وقال الألوسي: "وكل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن؛ إما موضوع، أو مؤول".
فظاهر هذا السند صحيح لا مجال للشك فيه؛ لأنه محلى بسلسلة من أئمة الحديث، فإسماعيل هو: ابن علية، وأيوب: هو السختياني، ونافع مولى ابن عمر.
ولكننا أمام احتمالين لا ثالث لهما:
إما أن نقول: إن مراد ابن عمر رضي الله عنه: الضياع بلا نسخ، وهذا باطل؛ لتضافر الأدلة القاطعة على سلامة القرآن من أي نقص، كما أنه بعيد من مثل ابن عمر الصحابي الجليل أن يقول ذلك.
وإما أن نقول: إن مراده السقوط بسبب النسخ، وهذا جائز، بل هو الواقع، ومن أجله وضع المؤلف هذا الخبر في هذا الباب.
ويمكننا بيان كلام ابن عمر للتابعين: ( أخذت القرآن كله ) ؛ أي: كل ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نُسخت تلاوته ، وما استقر متلوًّا.
( ذهب منه قرآن كثير ) ، أي: سقط منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو: أسقط في الجمعين المجمع عليهما بعده؛ لعدم استيفائه شروط ثبوت قرآنيته حسب العرضة الأخيرة، وشروطا أخرى غيرها .
( ما ظهر ) : ما استقر قرآنا ، فلم ينسخ، أو: ما تواتر ، وأثبت في المصاحف الإمام" انتهى .
والله أعلم.