الحمد لله.
أولا :
أمر الله تعالى بالإحسان إلى الناس ، ومن صور هذا الإحسان : العاريَّة ، وهي أن يعير المسلم شيئا من ماله لمن ينتفع به ثم يرده ، كقلم أو كتاب أو ثياب أو سيارة .. وما أشبه ذلك .
والأصل في حكم العارية أنها مستحبة بالنسبة للمعير ، لما فيه من الإحسان إلى الناس ومساعدتهم وقضاء حوائجهم .
وقد تكون واجبة في بعض الحالات :
منها : إذا كان المستعير مضطرا إلى العارية ، كرجل في برد شديد واستعار من أخيه ثوبا يلبسه ليدفع به البرد ، فإعارة الثوب هنا واجبة .
قال البهوتي رحمه الله في "الروض المربع" (7/436) :
"ومن اضطر إلى نفع مال الغير، مع بقاء عينه : كثيابٍ لدفع برد ، أو حبل ودلو لاستقاء ماء ونحوه ؛ وجب بذله له ، أي : لمن اضطر إليه ، مجانا ، مع عدم حاجته إليه ، لأن الله تعالى ذم على منعه بقوله : ويمنعون الماعون " انتهى .
ومنها : أن يكون الشيء المستعار من الأشياء رخيصة الثمن ، التي جرت عادة الناس بإعارتها وذم من امتنع من ذلك ، كالدلو والسكين والفأس .
هكذا مثل العلماء السابقون كالصحابة رضي الله عنهم – للأشياء اليسيرة التي يتسامح الناس بتداولها بينهم، وإعارتها لمن طلبها . ومثله الآن إعارة قلم لمن يكتب به شيئا يسيرا ثم يعطيه صاحبه.. أو شيء من أواني المنزل ، غير غالية الثمن ولا يخاف عليها من التلف، ونحو ذلك .
قال الله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) الماعون /3- 6.
روى ابن جرير (24/673) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل : مَا الْمَاعُونُ ؟ قَالَ : مَا يُتَعَاطَى النَّاسُ بَيْنَهُمْ ، مِنَ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وروى ابن جرير أيضا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ : الْمَاعُونَ. قَالَ : مَتَاعَ الْبَيْتَ. وفي رواية : يَمْنَعُونَهُمُ الْعَارِيَةَ ، وَهُوَ الْمَاعُونَ.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص 935) :
"[وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ] أي: يمنعون إعطاء الشيء، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، أو الهبة، كالإناء، والدلو، والفأس، ونحو ذلك، مما جرت العادة ببذلها والسماحة به " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين في "تفسير جزء عم" :
"[ويمنعون الماعون] أي: يمنعون ما يجب بذله من المواعين ، وهي الأواني، يعني يأتي الإنسان إليهم يستعير آنية. يقول: أنا محتاج إلى دلو، أو محتاج إلى إناء أشرب به، أو محتاج إلى مصباح كهرباء وما أشبه ذلك، فيمنع؛ فهذا أيضاً مذموم.
ومنع الماعون ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قسم يأثم به الإنسان.
القسم الثاني: قسم لا يأثم به، لكن يفوته الخير.
فما وجب بذله فإن الإنسان يأثم بمنعه، وما لم يجب بذله فإن الإنسان لا يأثم بمنعه لكن يفوته الخير" انتهى .
ونقل الرازي في تفسيره الأقوال في تفسير "الماعون" فقال :
" وَيَمْنَعُونَ الماعون وفيه أقوال ....
والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين ، أن الماعون اسم لما لا يُمنع في العادة ، ويسأله الفقير والغني ، ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة ، كالفأس والقدر والدلو والغربال والقَدوم ... وعلى هذا التقدير : يكون معنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة ، فإن البخل بها يكون في نهاية الدناءة والركاكة ، والمنافقون كانوا كذلك ، لقوله تعالى : الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل [ النساء : 37 ] وقال : مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [ القلم : 12 ]" انتهى.
ثانيا :
ينبغي أن يُعلم أن وجوب الإعارة على المُعير ، ليس مطلقا في جميع الأحوال .
بل هو مقيد بما إذا لم يكن محتاجا لهذا المال ، أو مضطرا إليه .
وقد نص العلماء على هذا القيد كما في كلام البهوتي السابق : ".. وجب بذله له ؛ أي لمن اضطر إليه مجانا ، مع عدم حاجته إليه" انتهى .
يعني: إذا لم يكن المالك محتاجا إليه، في وقت إعارته: وجب بذله لمن طلبه.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (10/109) :
وقد تجب العارية أحيانا ... كإعارة شخص رداء يدفع به ضرر البرد، فهذه واجبة ، فلو طلب منك شخص في برد شديد أن تعطيه رداء يلتحف به، وجب عليك أن تعطيه.
وضابط ذلك : أنه متى توقف عليها إنقاذ معصوم ؛ صارت واجبة.
ومن ذلك عند كثير من العلماء إعارة المصاحف؛ لأن المصحف يجب أن يبذل لمن أراد أن يتعلم به.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ إعارة الكتب التي يحتاج إليها الناس ، فتجب إعارتها.
لكن يشترط في ذلك ضرورة المستعير ، وعدم تضرر المعير؛ فلو قال المعير فيما إذا طلب منه استعارة مصحف: إني لو أعطيت هذا الرجل مصحفاً لأفسده، فإنه لا تجب عليه الإعارة، وكذلك لو قال: إن أعطيته الكتاب أفسده ، فلا تجب الإعارة؛ لأن فيها ضرراً على المعير" انتهى .
وبناء على هذا ؛ فامتناعك من إعارة الأشياء مرتفعة الثمن ، أو الأشياء التي تخشى من إفساد المستعير لها : لا حرج عليك فيه ، لأن عليك ضررا في ذلك .
أما الأشياء اليسيرة ، وما يعتاد كرام الناس التسامح بإعارته : فلا ينبغي أن تمتنع من إعارتها ، فإن ذلك مذموم كما تقدم .
ثالثا :
أما كونك لا تحب أن يلمس الأطفال الصغار أشياءك ، فلم تذكر سبب ذلك .
فإن كان ذلك خوفا من أن تكون أيديهم نجسة ، فهو تصرف خاطئ منك ؛ لأن بدن الأطفال وثيابهم محمولة على الطهارة ، حتى نتيقن نجاستها ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأطفال الصغار الرضع ، فيحملهم ويجلسهم في حجره ، صلى الله عليه وسلم .
حتى إن أحدهم كان يبول على ثياب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعنفه ، ولا يعنف أباه ولا أمه ، بل يأخذ كفا من ماء فيرشه مكان البول ، تطهيرا لهذه النجاسة ، وينتهي الأمر عند هذا .
روى مسلم (286) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : " أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يَرْضَعُ ، فَبَالَ فِي حَجْرِهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ " .
وقال النووي رحمه الله :
"ثِيَاب الصِّبْيَان وأَبْدَانهمْ وَلُعَابهمْ : مَحْمُولَة عَلَى الطَّهَارَة حَتَّى تُتَيَقَّن النَّجَاسَة ؛ فَتَجُوز الصَّلَاة فِي ثِيَابهمْ ، وَالْأَكْل مَعَهُمْ مِنْ الْمَائِع ، إِذَا غَمسُوا أَيْدِيهمْ فِيهِ .
وَدَلَائِل هَذَا كُلّه مِنْ السُّنَّة وَالْإِجْمَاع مَشْهُورَة . وَاَللَّه أَعْلَم" انتهى .
أما إن كان تصرفك هذا خوفا من أن يفسد الأطفال أشياءك ، فهذا التصرف مقبول منك ، له ما يبرره ، لكن ... بلا مبالغة في هذا ، ولا أنفة ، ولا زيادة في التأفف، ولا وسواس الطهارة ، ولا تعنيف للأطفال ؛ لا سيما الضيوف منهم !!
ويمكنك أن تغلق باب غرفتك ، أو تغلق جهاز الكمبيوتر الخاص بك .
وأحسن من ذلك أن تترفق بالأطفال عندك ، وتسمح لهم باللعب عليه بعضا من الوقت ، وتؤانسهم ، ثم تطلب منهم أن يغلقوا جهاز الكمبيوتر ، وينصرفوا إلى لعبة أخرى .
وعلى كل حال؛ فينبغي عليك أن تكون رحيما ، لطيفا بالأطفال ، وليتذكر الإنسان أيام طفولته ، كيف كان يجب أن يعامله الناس ، فليعامل الأطفال به ، فإن الأطفال من طبيعتهم حب اللعب والعبث بالأشياء .
والله أعلم .