الحمد لله.
أولا:
بهلول شخصية معروفة، وقد ترجم له عدد من المصنفين، منهم الذهبي رحمه الله تعالى؛ حيث قال:
" البهلول المجنون. هو البهلول بن عمرو، أبو وهيب الصيرفي الكوفي.
وسوس في عقله، وما أظنه اختلط، أو قد كان يصحو في وقت، فهو معدود في عقلاء المجانين.
له كلام حسن، وحكايات.
وقد حدث عن: عمرو بن دينار، وعاصم بن بهدلة، وأيمن بن نابل، وما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، ولا كتب عنه الطلبة.
كان حيا في دولة الرشيد. طوَّل ترجمته ابن النجار، وذكر أنه أتى بغداد...
وقد ساق أبو القاسم المفسر في كتاب "عقلاء المجانين" له حكايات وأشعارا، ولم أجد له وفاة " انتهى من "تاريخ الإسلام" (4 / 818).
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى، أنه توفي سنة 192 هجرية، وقال:
" كانت له كلمات حسان، ولقي الرشيد في سنة ثمان وثمانين وهو يريد الحج، فوعظه موعظة بليغة. وقد ذكرناها هناك. وكان بهلول يأوي المقابر " انتهى من "المنتظم" (9 / 202).
ثانيا:
ورد في بعض الروايات أنه جالس جعفر بن محمد الصادق رحمه الله تعالى، والذي يعده الشيعة من أئمتهم، فلذا عدّ الشيعة الرافضة بهلولا هذا من أعيانهم وعلمائهم، ثم زعموا أنه كان يظهر الجنون بأمر من بعض أئمة الشيعة ليتقي عقاب الخليفة، ولكي لا يفتن في عقيدته كما زعموا!؟
وأما الحكاية المتدولة عن مناظرته لأبي حنيفة حول وجود الجنة الآن، وعن فعل الإنسان وأين يعذب الشيطان في الآخرة.
فهذه قصة كذبها ظاهر؛ ويظهر هذا من وجوه:
الوجه الأول:
أن هذه الحكاية إنما يتداولها الشيعة، وعمدتهم في ذكرها كتب متأخرة، وأقدم مصدر عرف بهذه الحكاية هو كتاب متأخر جدا؛ وهو الكتاب المسمى بـ "مجالس المؤمنين" للتستري الشيعي، المتوفى سنة 1019 هجرية.
ولا يعلم من أي كتاب أخذها، حيث قال مؤلفه:
" وقد ذكروا أن البهلول اجتاز ذات يوم على أبي حنيفة، فسمعه يحدّث تلاميذه فيقول لهم: إنّ لجعفر الصادق أقوالا ثلاثة لا أقبلها:
القول الأول: إنه يقول: إن الشيطان يعذّب بالنار، وكيف يتم تعذيب من هو مخلوق من النار بها.
الثاني: إنّه يقول: إنّ الله لا يُرى، وكيف يصحّ القول في موجود وليس يُرى.
القول الأخير: حيث يقول: فاعل الفعل الإنسان نفسه، وقد وردت النصوص بخلافه.
ولما فرغ أبو حنيفة من كلامه تناول البهلول من الأرض حجرا وضرب به رأس أبي حنيفة وهرب، ومن غرائب الصدف أنّه وقع في جبهته فآلمه، فتبعه راكضا مع تلامذته وقبضوا عليه، ولمّا كان من أهل الخليفة لم يجرؤوا على إيذائه، ولكن حملوه إلى الخليفة وشكوه إليه، فقال البهلول لأبي حنيفة: أي ظلم نالك منّي؟
فقال: تلك الحجارة التي ضربت بها رأسي حتّى سال دمي وأوجعتني.
فقال لأبي حنيفة: أرني الألم.
فقال أبو حنيفة: وهل يمكن رؤية الألم.
فقال: فكيف عارضت الإمام الصادق عليه السلام أنّ الله يرى، إذ لا معنى لموجود وليس يّرى؟
وإنّك لتكذب بادّعائك الألم من الحجر، لأنّه تراب وأنت أيضا من التراب، والتراب لا يؤثر بالتراب ولا يعذّب به، قياسا على ما عارضت به الإمام من عدم تعذيب الشيطان بالنار لأنّه منها.
وأنت استبعدت قول الإمام عليه السلام من أن الفعل ينسب إلى فاعله، أي هو فاعل الفعل، وإذا لم يكن العبد فاعلا لفعله، فلماذا شكوتني إلى الخليفة وحملتني إليه وطالبتني بالقصاص؟!
ولمّا عجز أبو حنيفة عن الجواب ولم يأت بكلام معقول ومقبول، قام خجلا من المجلس" انتهى. من كتاب الشيعي التستري الذي سماه "مجالس المؤمنين" (2 / 413 - 415).
فقوله: " وقد ذكروا أن البهلول... ". فمن هؤلاء الذين ذكروا؟ والخبر إنما تعرف صحته بصحة إسناده، ولا يعرف لهذا الخبر إسناد.
الوجه الثاني:
الخبر يحتوي على عقائد متأخري الشيعة من الرافضة، لم تعرف عند الشيعة زمن جعفر الصادق، وجعفر من أئمة السلف:
العقيدة الأولى: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يخرج عن نصوص الوحي في إثبات أن للعبد استطاعة ومشيئة في اختيار أفعاله؛ إلا أنه لا يخرج عن مشيئة الله تعالى؛ كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ المدثر/54 - 56.
وقوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الإنسان /29 - 31.
وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التكوير/27 - 29.
والله تعالى خالق أفعال العباد؛ لأنه خالق كل شيء ؛ إلا أن هذه الأفعال تنسب إلى فاعليها فيذمون على القبيح من الأعمال ويمدحون على الصالح منها.
كما ورد في "الفقه الأكبر" (ص 35) المنسوب إلى أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ حيث جاء فيه:
" والإيمان والكفر فعل العباد ... ، وجميع أفعال العباد، من الحركة والسكون: كسبهم على الحقيقة، والله تعالى خالقها، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره " انتهى.
فالحاصل؛ أن الإمام أبا حنيفة ينسب أفعال العباد إليهم من حيث كسبها، وإلى الله تعالى من حيث إنه قدّرها وهو خالقها؛ فهو خالق كل شيء.
ولا يعرف نص صحيح نسب إلى جعفر الصادق خلاف هذه العقيدة، وإنما خالفها الرافضة لما اتصلوا بالمعتزلة فاتبعوهم على نفي القدر وعلى أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر، والنقل بذلك عنهم ظاهر معروف. وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات، وإنما شاع فيهم رد القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه " انتهى من "منهاج السنة" (3 / 139).
وقال رحمه الله تعالى:
" فإن جميع ما يذكره هؤلاء الإمامية – الشيعة الرافضة- المتأخرون في مسائل التوحيد والعدل، كابن النعمان والموسوي الملقب بالمرتضى، وأبي جعفر الطوسي وغيرهم، هو مأخوذ من كتب المعتزلة، بل كثير منه منقول نقل المسطرة، وبعضه قد تصرفوا فيه.
وكذلك ما يذكرونه من تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك، هو منقول من تفاسير المعتزلة كالأصم والجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني والرماني وأبي مسلم الأصبهاني وغيرهم، لا ينقل عن قدماء الإمامية من هذا حرف واحد، لا في الأصول العقلية ولا في تفسير القرآن، وقدماؤهم كانوا أكثر اجتماعا بالأئمة من متأخريهم، يجتمعون بجعفر الصادق وغيره " انتهى من "منهاج السنة" (3 / 5 - 7).
العقيدة الثانية:
نسبت هذه القصة إلى أبي حنيفة إثباته لرؤية المؤمنين لله تعالى يوم القيامة، وإنكاره على من خالف هذا، وهذه عقيدة صحيحة جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، واتفق عليها سلف الأمة.
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
" هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين ...
والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة (الآية 22 – 23). وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه.
وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد..." انتهى من "العقيدة الطحاوية" (ص 7 ، 13).
وجعفر الصادق رحمه الله تعالى لا يُعلم عنه ما ينفى هذه الرؤية، ونفيها إنما هو من العقائد التي أخذها الشيعة الرافضة عن المعتزلة.
قال شارح الطحاوية رحمه الله تعالى:
" المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية - الشيعة الرافضة-، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة " انتهى من "شرح الطحاوية" (189).
الوجه الثالث:
أبو حنيفة رحمه الله تعالى إمام من أئمة المسلمين، فلا يستقيم مع إمامته هذه أن يكذِّب ما نص عليه القرآن في آيات عدة من أن الشيطان مآله إلى النار.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، في تفسير قوله تعالى:
( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر/39 – 43.
قال رحمه الله تعالى:
" وكل آية فيها ذكر إضلال إبليس لبني آدم، بين فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار، كما قال هنا: ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) الآية، وقال في الأعراف: ( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) وقال في سورة بني إسرائيل: ( قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا )، وقال في ص: ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ). " انتهى من"أضواء البيان" (3 / 176).
الوجه الرابع:
أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يعرف عنه أنه عاش في مدينة بها خليفة، إنما كان مقامه بالكوفة، ولم تكن مقر خلافة، والعباسيون كانوا بها قبل خلافتهم فلما أخذوا الخلافة فارقوها، وإنما يذكر أهل التاريخ أن أبا حنيفة استقدمه أبو جعفر المنصور إلى بغداد ليوليه القضاء فرفض، فيقال إنه مات في السجن، ولم يعلم أنه طال به المقام في بغداد حتى يدّرس ويجتمع حوله الطلاب.
وأما بهلول فهو كوفي أيضا، ومن ذكر أنه أقام في بغداد زمن هارون الرشيد، فيومئذ لم يكن أبو حنيفة حيا؛ لأنه توفي سنة 150 هجرية، والخليفة هارون إنما تولى الخلافة سنة 170 هجرية.
كما أن هذه الرواية تحتوي على كذب بارد، من ركض أبي حنيفة – مع وقاره المعروف- خلف مجنون، وادعاء أن البهلول كان من أقارب الخليفة، فهذا لا يعلم له مصدر موثوق إلا ما نقله التستري الشيعي، عن كتاب للشيعة في التاريخ يسمى بـ "تاريخ كزبدة" لحمد الله القزويني، ولا تعلم لهذا الكتاب أية قيمة علمية، حتى الشيعة أنفسهم لا يرونه عمدة، كما جاء في كتاب "أعيان الشيعة" (3 / 617) لشيخهم العاملي، حيث قال:
" ولسنا نعلم مبلغ "تاريخ كزبده" من الاعتبار" انتهى.
فالحاصل؛ أن هذا الخبر لا يصح، وعلامات الكذب ظاهرة وواضحة عليه.
والله أعلم.