الحمد لله.
لا حرج في قول الإنسان أعتمد عليك، وهو يريد الاعتماد الظاهر على الأسباب، لا الاعتماد القلبي.
والاعتماد الظاهر يكون بمباشرة الأسباب، كأن يريد منه شرح درس، أو صنع طعام، أو تنفيذ عمل، وهذا مشروع.
والله سبحانه هو صاحب العطاء والفضل، وهو الذي جعل الأسباب أسبابا.
قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ النحل/80، 81 .
وقال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا الفرقان/48، 49 .
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب، واختفى في غار ثور ثلاث ليال، واتخذ دليلا مشركا يدله على الطريق، وظاهرٌ بين درعين يوم أحد، وهو سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم.
فاتخاذ الأسباب- دون اعتماد القلب عليها- من الشرع، والالتفات إليها قدح في التوحيد، وإلغاؤها نقص في العقل.
قال ابن القيم رحمه الله:
"والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام:
منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقلاء على عقله، وزعم أنه بذلك ينصر الشرع، فجنى على العقل والشرع، وسلط خصمه عليه.
ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار، ومدبر لها يصرفها كيف أراد، فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها، ويتصرف فيها كما يشاء ويختار.
وهذان طرفان جائران عن الصواب.
ومنهم: من أثبتها خلقا وأمرا، قدرا وشرعا، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به، من كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوع المشيئة والإرادة، ومحل جريان حكمها عليها، فيقوي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل - إن شاء - بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، ويعريها منها، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه، ليعلم خلقه أنه الفعال لما يريد، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته، وأن التعلق بالسبب دونه، كالتعلق ببيت العنكبوت، مع كونه سببا.
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد، وإثبات الحِكَم، يوجب للعبد - إذا تبصر فيه - الصعود من الأسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارا، وضارها نافعا، ودواءها داء، وداءها دواء.
فالالتفات إليها بالكلية: شرك مناف للتوحيد.
وإنكار أن تكون أسبابا بالكلية: قدح في الشرع والحكمة.
والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابا - : نقصان في العقل.
وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، وشهود الجمع في تفرقها، والقيام بها: هو محض العبودية والمعرفة، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة، والله أعلم" انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 257).
وبين رحمه الله أن الممنوع هو اعتماد القلب على الأسباب.
قال رحمه الله:
" والعلل التي تُتَّقَى في الأسباب نوعان:
أحدهما: الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها، ورجاؤها وخوفها، فهذا شرك، يرِق ويغلُظ، وبين ذلك.
الثاني: ترك ما أمر الله به من الأسباب، وهذا أيضا قد يكون كفرا وظلما، وبين ذلك.
بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق به علمه وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لم تسبق له به المشيئة الإلهية، ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم " انتهى من "مدارج السالكين" (3 / 463).
فمن قال: أعتمد عليك في كذا، وأراد اعتماد القلب: فهذا نقص في توكله وتوحيده.
ومن أراد الاعتماد الظاهر، أي كونه سببا، دون التفات القلب إليه: فلا حرج عليه في ذلك، ولا حرج عليه أيضا في إطلاق لفظ "أعتمد عليك في كذا"، ونحو هذا من الكلام.
وقد نص جماعة من الفقهاء على جواز "اعتمدت عليك" وجعلوا هذا من ألفاظ التولية.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وألفاظ التولية الصريحة سبعة: وليتك الحكم، وقلدتك،
واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إِليك، وفوضت إِليك، وجعلت لك الحكم.
فإِذا وُجد لفظ منها والقبول من المُوَلّى انعقدت الولاية.
والكناية نحو: اعتمدت عليك. أو عولت عليك، ووكلت إِليك، وأسندت إِليك الحكم.
فلا ينعقد بها حتى يقترن بها قرينة نحو: فاحكم، أو فتولَّ ما عَوَّلْتُ عليك فيه، وما أشبهه" انتهى من "المقنع"، ص475 .
وينظر: "الإنصاف" (11/ 162)، "المبدع" (8/ 145).
وسئل الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: " هل يصح أن يقال توكلت على الله ثم عليك ؟
فأجاب : أن هذا لا يصلح ؛ لأن الإمام أحمد وغيره من الأئمة صرحوا بأن التوكل عمل القلب .
ما معنى التوكل ؟ هو تفويض الأمر إلى الله جل وعلا بعد بذل السبب ؛ إذا بذل السبب فوض العبد أمره إلى الله ، فصار مجموع بذله للسبب، وتفويضه أمره لله: مجموعهما التوكل ، ومعلوم أن هذا عمل القلب، كما قال الإمام أحمد .
ولهذا سئل الشيخ محمد بن ابراهيم مفتي الديار السعودية السابق رحمه الله تعالى عن هذه العبارة فقال : لا تصح، لأن التوكل عمل القلب ، لا يقبل لأن يقال فيه ( ثم ) ؛ توكلت على الله ثم عليك . إنما الذي يقال فيه ( ثم ) ما يسوغ أن يُنسب للبشر .
بعض أهل العلم في وقتنا قالوا : إن هذه العبارة لا بأس بها ؛ توكلت على الله ثم عليك ؛ ولا يُنظر فيها إلى أصل معناها، وما يكون من التوكل في القلب ، إنما ينظر فيها إلى أن العامة حينما تستعملها ما تريد التوكل الذي يعلمه العلماء ، وإنما تريد مثل معنى اعتمدت عليك ، ومثل وكلتك، ونحو ذلك ، فسهلوا فيها باعتبار ما يجول في خاطر العامة من معناها، وأنهم لا يعنون التوكل الذي هو لله ؛ لا يصلح إلا لله .
لكن مع ذلك، فالأولى المنع لأن هذا الباب ينبغي أن يُسد، ولو فتح باب أنه يستسهل في الألفاظ لأجل مراد العامة ، فإنه يأتي من يقول مثلا ألفاظ شركية، ويقول أنا لا أقصد بها كذا ، مثل الذين يظهر ويكثر على لسانهم الحلف بغير الله، بالنبي أو ببعض الأولياء أو نحو ذلك، يقولون لا نقصد حقيقة الحلف ، ينبغي وصد ما يتعلق بالتوحيد ، وربما ما يكون قد يخدشه أو يضعفه ، ينبغي وصد الباب أمامه حتى تخلص القلوب والألسنة لله وحده لا شريك له" انتهى من شرح كتاب ثلاثة الأصول للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله .
والله أعلم.