الحمد لله.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا رواه البخاري (7146)، ومسلم (1652).
في هذا الحديث نهي للمسلم أن يطلب الإمارة، وبيّن أهل العلم حكمة ذلك؛ أن الشخص المقدم على طلب الإمارة، لعظم شأنها، وجلال موقعها، وكثرة ما يلابسها فتن وشهوات، وعوارض الأحوال؛ عرضة لأن يخون ما وكل إليه من أمانات ، أو ، على أقل ما يخاف عليه منها : أن يقصر في القيام بما يجب عليه ، أو يضعف عن حمل أمانتها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ رواه البخاري (7148).
فمن كان يعلم هذا الخطر العظيم ، ثم هو مع ذلك ، يحرص عليها ، ويطلبها ؛ فهذا إنما ينظر ، في غالب أمره ، إلى مغانمها ، لا إلى واجباتها؛ ومثل هذا يجب أن لا يولّى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لَنْ - أَوْ لاَ - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ رواه البخاري (2261) ومسلم (1733).
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" قوله : ( لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ ) : هو نهيٌ، وظاهره التحريم، وعلى هذا يدلّ قوله بعد هذا : ( إنَّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا يسأله أو حرص عليه ) ؛ وسببه : أن سؤالها والحرص عليها، مع العلم بكثرة آفاتها، وصعوبة التخلص منها؛ دليلٌ على أنه يطلبها لنفسه، ولأغراضه. ومَنْ كان هكذا ، أوشك أن تغلب عليه نفسه ، فيهلك. وهذا معنى قوله: ( وكل إليها ).
ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها، وفرَّ منها؛ ثم إن ابتلي بها: فَيُرْجَى له ألا تغلب عليه نفسه، للخوف الغالب عليه، فيتخلّص من آفاتها، وهذا معنى قوله: ( أعين عليها )" انتهى من "المفهم" (4 / 16).
وهذا النص لا يعارَض بحادثة طلب يوسف عليه السلام أن يولّى على خزائن مصر، كما في قوله تعالى:( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) يوسف/55.
لأن سؤال الإمارة والحرص عليها مذموم إذا وُجد من يقوم بها، بلا تقصير ، أما إذا لم يوجد فإنها تكون واجبة على من يصلح لها ، فلا حرج من طلبها في هذه الحالة ، لأنها لو ذهبت لغيره، لترتب على ذلك الإخلال بمصالح الناس الدينية أو الدنيوية .
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية، لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح، وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره.
وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح، ولا يقوم مقامه؛ لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها، ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به، من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام.
فأما لو كان هناك من يقوم بها ، ويصلح لها ، وعلم بذلك : فالأولى ألا يطلب " انتهى من "تفسير القرطبي" (11 / 385).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما سؤال الولاية فقد ذمه صلى الله عليه وسلم.
وأما سؤال يوسف وقوله: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ) : فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير ما لم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتعبير الرؤيا ما يؤول إليه حال الناس.
ففي هذه الأحوال ونحوها: ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال، وبين ما نهى عنه " انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 564).
والله أعلم.