الحمد لله.
أولا:
من لم يصله الإسلام فإنه لا يعذب يوم القيامة على موته على الكفر؛ لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا الإسراء/15 .
واختلف فيه، هل يكون خدما لأهل الجنة، أو يمتحن، أو غير ذلك؟
والصحيح أنه يمتحن، فمن أطاع أمر الله نجا، ومن عصاه هلك.
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (16301) ، والبيهقي في "الاعتقاد" (169) ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يَعْنِي يَدُلُّونَ عَلَى اللَّهِ بِحُجَّةٍ - : رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا .
وحسنه محققو المسند ، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1434) وله شواهد متعددة ، ذكرها ابن كثير في تفسيره (5/50-53) .
وينظر: جواب السؤال رقم : (98714).
ثانيا:
هذا الذي لم يصله الإسلام ، على وجه تقوم عليه به الحجة : يحكم عليه بالكفر في أحكام الدنيا، على ظاهر حالهم؛ لأن من لم يأت بالإسلام فهو كافر.
قال ابن القيم رحمه الله في "طريق الهجرتين" ص413: "والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق.
وأما كون زيد بعينه، وعمرو بعينه: قامت عليه الحجة، أم لا؛ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد: أن كل من دان بدين غير دين الإسلام، فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.
هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل، وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا: فهي جارية مع ظاهر الأمر؛ فأطفال الكفار ومجانينهم: كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم" انتهى.
ثالثا:لا يمكننا الجزم في شأن هؤلاء ، وأنهم تأتيهم ملائكة سود الوجوه عند الموت الخ؛ فالظاهر أنهم لو أتتهم الملائكة على هذه الهيئة ، لكان في ذلك نوع عذاب عليهم ، أو عقوبة لهم ، على ما جاء في تتمة الحديث، مما يفيد سخط الله عليه، وعذابه، والتضييق عليه، وفتح باب من النار له: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ... حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ". ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40] .
فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: " اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى " ؛ فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ، ثُمَّ قَرَأَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ، فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] .
فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ،؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ
.
رواه أحمد (18534) بإسناد صحيح.
فإذا كان الإنسان معذورا لعدم بلوغ الإسلام إليه، فالظاهر أنه لا يعذب عند الموت ولا في البرزخ؛ لعموم قوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا الإسراء/15.
والظاهر – على ذلك أيضا - : أنهم لا يُسألون كذلك في قبورهم.
وقيل : إنهم يُسألون ، ويكون جوابهم بحسب ما يؤول إليها حالهم ، وما يعلمه الله منهم، كما هو حالهم عن الاختبار في عرصات القيامة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم " محمد "؟ فيثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول المؤمن: الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي. ويقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه. فينتهرانه انتهارة شديدة - وهي آخر فتنه التي يفتن بها المؤمن - فيقولان له: كما قالا أولا.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة، من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم، وهي عامة للمكلفين؛ إلا النبيين فقد اختلف فيهم.
وكذلك اختلف في غير المكلفين، كالصبيان والمجانين:
فقيل: لا يُفتنون، لأن المحنة إنما تكون للمكلفين، وهذا قول القاضي وابن عقيل. وعلى هذا فلا يلقنون بعد الموت.
وقيل: يلقنون، ويفتنون أيضا، وهذا قول أبي حكيم وأبي الحسن بن عبدوس، ونقله عن أصحابه، وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام، وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه عن أهل السنة واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد" انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 257).
وسئل الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: هل يقع السؤال في القبر والفتنة على أولاد المشركين، وأهل الفترة؟
فأجاب: "نعم، السؤال عام ويكون جوابهم بحسب ما يؤول إليه حالهم، وما يعلمه الله جل وعلا عنهم" انتهى.
والحاصل:
أن أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث والآثار.
وأن الحكم بكفرهم في الدنيا، لا يعني الحكم عليهم بذلك باطنا، بحيث تتنزل عليهم الأحاديث في عذاب الكفار عند خروج أرواحهم، وعقبه، بل الظاهر سلامتهم من العذاب، قبل الامتحان في عرصات القيامة.
والله أعلم.