درسنا في السيرة أن بيعة النساء هي بيعة العقبة الأولى، ولكن الآية التي تتحدت عن بيعة النساء قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ...)، وبيعة العقبة الأولى لم يكن فيها نساء، فآمل التوضيح .
الحمد لله.
أولًا :
الصحيح من كلام العلماء المحققين أن المبايعة في العقبة الأولى كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم، وعلى الولاء والنصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم عليهم المدينة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأولادهم.
وأما المبايعة على مثل بيعة النساء فقد كانت بعد ذلك.
انظر :
"صحيح البخاري" (7055)،(7056)،(7199)،(7200) ، و"صحيح مسلم" (1709)،(42).
ثانيًا :
ذكر "ابن إسحاق" أن بيعة العقبة الأولى كانت على بيعة النساء ، والمقصود ببيعة النساء ما ورد في سورة الممتحنة ، في الآية/12، يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وقد أشكل هذا على العلماء ، فذهبوا مذاهب في الإجابة عليه :
1- أن مراده : وفق ما نزلت عليه آية بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية .
2- أن المبايعة في العقبة الأولى كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم، وعلى الولاء والنصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم عليهم المدينة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأولادهم، وأما المبايعة على مثل بيعة النساء فقد كانت بعد ذلك .
وأما التفصيل ، فقد جاء في "اللؤلؤ المكنون" بعد ذكر بيعة العقبة ، وقول عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- فيما رواه "ابن إسحاق" قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب: على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء غفر .
و" سلك العلماء المحققون في مقالة ابن إسحاق على "بيعة النساء" مسالك:
قال الحافظ ابن كثير: وقوله -أي ابن إسحاق- على بيعة النساء، يعني: على وفق ما نزلت عليه آية بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية، وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة، وليس هذا بعجيب، فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في غير ما موطن كما بيناه في سيرته، وفي التفسير.
وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو؛ فهو أظهر، والله أعلم .
والصحيح هو ما قاله الحافظ في الفتح: أن المبايعة المذكورة في حديث عبادة -رضي الله عنه- على الصفة المذكورة، لم تقع ليلة العقبة.
وإنما كان الذي وقع ليلة العقبة: ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن حضر من الأنصار: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه.
ومن حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أيضا عند البخاري في صحيحه قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم .
وأصرح من ذلك في هذا المراد: ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من وجه آخر، عن عبادة -رضي الله عنه- : أنه جرت قصة مع أبي هريرة -رضي الله عنه- عند معاوية -رضي الله عنه- بالشام، فقال عبادة -رضي الله عنه- : يا أبا هريرة، إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول الحق، ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي بايعناه عليها .
فهذا هو الذي وقع في هذه البيعة الأولى.
ثم صدرت مبايعات أخرى، منها هذه البيعة التي في حديث الباب ، في الزجر عن الفواحش المذكورة.
والذي يقوى: أنها وقعت بعد فتح مكة ، بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة، وهي قوله تعالى: (ياأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) .
ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في حديث عبادة -رضي الله عنه- هذا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بايعهم قرأ الآية كلها، وعند مسلم في صحيحه قال: فتلا علينا آية النساء قال: (... أن لا يشركن بالله شيئا ).
وللطبراني من وجه آخر قال عبادة -رضي الله عنه-: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة، ولمسلم في صحيحه عن عبادة -رضي الله عنه- قال: أخذ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أخذ على النساء.
فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة ...
وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- حضر البيعتين معا: بيعة العقبة الأولى، والبيعة على مثل بيعة النساء يوم الفتح، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يمتدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك.
والراجح أن التصريح بذلك -بأن بيعة العقبة الأولى كانت على بيعة النساء- وهم من بعض الرواة .
قال الدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله هو الذي يجب أن يصار إليه، فهو رحمه الله من أعلم الناس بالقرآن وتنزلاته، والسنة وطرق الجمع بين رواياتها المختلفة، وبالسيرة وتواريخ الصحابة، وله انتقادات كثيرة صائبة على ابن إسحاق، وغيره من كتاب السير وتاريخ الرجال.
وهذه التحقيقات والتنبيه إلى المغالط والأوهام في الرواية، هي من أهم ما يعنى به الدارسون للسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، وهي قد تخفى على غير المتخصصين في علوم القرآن والسنة وعلومها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا.
والخلاصة:
أن المبايعة في العقبة الأولى كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم، وعلى الولاء والنصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم عليهم المدينة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأولادهم. وأما المبايعة على مثل بيعة النساء فقد كانت بعد ذلك "، انتهى من "اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون" (1/ 560 - 566).
والله أعلم.