ما حكم صيام الأيام السوداء؛ وهي آخر 3 أيام في الشهر ؟ وهل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صامها؟ لأني سمعت شخصا يقول : إنه جاء في "صحيح البخاري" أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتتح ويختتم شهره بالصيام .
الحمد لله.
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب وحثّ على صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (1178)، ومسلم في "صحيحه" (721) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال :" أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَصَلاَةِ الضُّحَى ، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ ".
وكذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
فقد أخرج مسلم في "صحيحه" (1160) ، من حديث معاذة العدوية : " أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ " .
وقد اختلفت الروايات في تحديد هذه الثلاث ، ففي الحديث السابق ذكرت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يبالي من أيّ أيام الشهر صام .
وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذه الثلاث أول الشهر .
وذلك ما أخرجه أبو داود في "سننه" (2450) ، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (2116) ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَعْنِي مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ".
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حثّ على صيام الأيام البيض ، وهي الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر .
ففي ذات يوم دعا رجلا إلى الطعام ، فقال : ادْنُ فَكُلْ مَعَ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَائِمٌ. قَالَ فَهَلَّا صُمْتَ الْبِيضَ؟ قَالَ: وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ .
أخرجه النسائي في "سننه" (2429) ، وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1567) .
واختار بعض أهل العلم أن تكون هذه الأيام الثلاث هي السابع والعشرين وتالييه ، وسماها بعض العلماء الأيام السود ، وسُميت بذلك لغياب ضوء القمر فيها .
وهذه الثلاث الأُخر من الشهر لم يرد في فضل صيامها حديث صريح ، وهذا الذي نقله السائل عن البعض أنه قد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح ويختتم شهره بالصيام لا أصل له ، وإنما ورد حديث غير صريح الدلالة على ذلك ، أخذ منه بعض أهل العلم استحباب صيام الأيام السود .
وهو الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" (1983)، ومسلم في "صحيحه" (1162) ، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ - أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ -، فَقَالَ: يَا أَبَا فُلاَنٍ ، أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَالَ الرَّجُلُ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ .
وقد أورده البخاري ، وبوب عليه في صحيحه ، فقال :" بَابُ الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ ".
ووجه الدلالة من الحديث على استحباب صيام الأيام السود ، عند من يقول بذلك ، هو قوله صلى الله عليه وسلم :" أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ ؟ ".
و" السرر " : اختلف أهل العلم في المراد به ، فمنهم من قال : سرر الشهر أوله ، ومنهم من قال : سرر الشهر أوسطه ، ومنهم من قال : سرر الشهر آخره ، وهو قول الجمهور ، ولأجل ذلك استدل به من يقول باستحباب صيام آخر الشهر .
إلا أن القائلين بذلك استُشكل عليهم أن الظاهر في المراد بالشهر في الحديث شهر شعبان ، فإن كان كذلك فهو معارض بنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم صيام رمضان بيوم أو يومين ، فكيف يستقيم الاستدلال مع هذه المعارضة ؟
فكان جوابهم : أن النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لمن قصد ذلك ، وأن من كانت له عادة على الصيام آخر الشهر لا يدخل في حديث النهي .
وقد ذكر ابن حجر اختلاف أهل العلم في الاحتجاج بهذا الحديث فقال كما في "فتح الباري" (4/231) :" قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَالْجُمْهُورُ الْمُرَادُ بِالسُّرَرِ هُنَا آخِرُ الشَّهْرِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِسْرَارِ الْقَمَرِ فِيهَا ، وَهِيَ لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ . وَنَقَلَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ سُرَرُهُ أَوَّلُهُ ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَالْجُمْهُورِ .
وَقِيلَ : السُّرَرُ وَسَطُ الشَّهْرِ . حَكَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ السُّرَرَ جَمْعُ سُرَّةٍ، وَسُرَّةُ الشَّيْءِ وَسَطُهُ ، وَيُؤَيِّدُهُ النَّدْبُ إِلَى صِيَامِ الْبِيضِ وَهِيَ وَسَطُ الشَّهْرِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي صِيَامِ آخِرِ الشَّهْرِ نَدْبٌ ، بَلْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ وَهُوَ آخِرُ شَعْبَانَ لِمَنْ صَامَهُ لِأَجْلِ رَمَضَانَ ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ مُسْلِمًا أَفْرَدَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا سُرَّةُ هَذَا الشَّهْرِ عَنْ بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ ، وَأَرْدَفَ بِهَا الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَضُّ عَلَى صِيَامِ الْبِيضِ وَهِيَ وَسَطُ الشَّهْرِ كَمَا تَقَدَّمَ . لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِي جَمِيعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَهُوَ : ( سُرَّةٌ ) ، بَلْ هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ بِلَفْظِ: ( سِرَارٍ )، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي بَعْضِهَا سُرَرٌ وَفِي بَعْضِهَا سِرَارٌ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آخِرُ الشَّهْرِ ....
وَقَالَ آخَرُونَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يَقْصِدُ بِهِ التَّحَرِّيَ لِأَجْلِ رَمَضَانَ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اعْتَادَهُ ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ حَدِيثِ النَّهْيِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ إِلَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ .
وَأَشَارَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ لِمَنْ حَمَلَ سُرَرَ الشَّهْرِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ آخِرُ الشَّهْرِ الْفِرَارُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ . وَقَالَ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ ، بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَنْ لَيْسَتْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ ، وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى مَنْ لَهُ عَادَةٌ ، حَمْلًا لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ عَلَى مُلَازَمَةِ عَادَةِ الْخَيْرِ حَتَّى لَا يُقْطَعُ ..." انتهى .
وقد ورد عن إبراهيم النخعي رحمه الله استحباب هذه الأيام الثلاث الأخر من كل شهر ، لتكون كفارة لما مضى من الذنوب خلال الشهر .
حيث روى الطبري في "تهذيب الآثار" (2/861) ، بإسناده عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ مِنَ الشَّهْرِ آخِرَ الشَّهْرِ , وَيَقُولُ: " تَكُونُ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى ".
قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/227) :" واختار إبراهيم النخعي أن يصومها آخر الشهر، ليكون كفارة لما مضى ، وسيأتي ما يؤيده في الكلام على حديث عمران بن حصين في الأمر بصيام سرار الشهر " انتهى .
وقد نصّ بعض أهل العلم من الشافعية على استحباب صومها ، منهم الماوردي ، وابن حجر الهيتمي .
قال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/69) :" وَالْحَاصِلُ : أَنَّ صِيَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهْرِ عَلَى أَوْجُهٍ .. خَامِسُهَا ثَلَاثَةٌ أَوَّل كُلِّ شَهْرٍ رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُرَّةَ كُلِّ شَهْرٍ ، وَيُسَنُّ أَيْضًا صَوْمُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَتَالِيَيْهِ ، وَتُسَمَّى الْأَيَّامَ السُّودَ " انتهى .
وقال الرملي في "نهاية المحتاج" (3/208) :" قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُسَنُّ صَوْمُ أَيَّامِ السُّودِ وَهِيَ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَتَالِيَاهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُصَامَ مَعَهَا السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ احْتِيَاطًا. قَالَ ابْنُ الْعِرَاقِيِّ: وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ الثَّالِثِ مِنْهَا إذَا كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا ، وَلَعَلَّهُ يُعَوَّضُ عَنْهُ بِأَوَّلِ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ السُّودِ أَيْضًا لِأَنَّ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا سَوْدَاءُ .
وَخُصَّتْ أَيَّامُ الْبِيضِ وَأَيَّامُ السُّودِ بِذَلِكَ لِتَعْمِيمِ لَيَالِي الْأُولَى بِالنُّورِ وَلَيَالِي الثَّانِيَةِ بِالسَّوَادِ ، فَنَاسَبَ تَزْوِيدَهُ بِذَلِكَ لِإِشْرَافِهِ عَلَى الرَّحِيلِ ، وَشُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْأُولَى ، وَطَلَبًا لِكَشْفِ السَّوَادِ فِي الثَّانِيَةِ " انتهى.
فمما سبق يتبين أن صيام هذه الأيام الثلاث الأخر من كل شهر لم يرد في فضل صيامها حديث صريح الدلالة ، وإنما جاء فيها ما سبق ذكره ، وقد استحب بعض أهل العلم صيامها لأجل هذا الحديث ، وكذلك حتى يختم العبد شهره بطاعة تكفر عنه ما سلف في شهره من ذنب ، لذا من صامها لا بأس ، ولا يُنكر عليه ، والله أعلم .
وللاستزادة حول صيام الثلاثة أيام من كل شهر يمكن مراجعة جواب السؤال رقم : (69781) .
والله أعلم.