لو كان هناك شخصان بنفس درجة التقوى والصلاح والعبادة، ودخل كلاهما الجنة في الآخرة، إلا أنهما في الدنيا كانا متفاوتين في الحياة، فالأول ولد في دولة متقدمة وثرية، واستمتع بحياته كثيراً، وسافر كثيراً...إلخ، والثاني ولد في دولة فقيرة وسيئة، ولم يحظ بحياة جيدة، فهل سيعوَض الثاني في الجنة عما فاته في الدنيا، أم إنه سيلقى نفس جزاء الشخص الأول؟ وبهذه الحالة يكون الأول كسب أكثر من الثاني لأنه كسب الدنيا والآخرة ؟ وإن كان الجواب أن للاثنين نفس جزاء الآخرة، أليس ذلك غير عادل للثاني؟
الحمد لله.
المدار في الآخرة على التقوى والعمل الصالح، فلو استوى شخصان في هذا، من كل وجه : كانا في نفس الدرجة، دون نظر إلى حالهما في الدنيا، لكن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء لخفة الحساب عليهم.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ الحجرات/13.
ومن أهل العلم من فضل الفقير الصابر على الغني الشاكر، ومنهم من عكس .
والصواب أن العبرة بالعمل كما قدمنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " قد تنازع كثير من متأخري المسلمين في " الغني الشاكر والفقير الصابر " أيهما أفضل؟
فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد ، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد ، وقد حكي في ذلك عن الإمام أحمد روايتان.
وأما الصحابة والتابعون : فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر.
وقال طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى ، فأيهما كان أعظم إيمانا وتقوى، كان أفضل. وإن استويا في ذلك ، استويا في الفضيلة .
وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى. وقد قال الله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما).
وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء.
والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم ، وحال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره: ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ).
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ) .
وفي الحديث الآخر : لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء ، فقالوا مثل ما قالوا، فذكر ذلك الفقراء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب.
ثم إذا حوسب أحدهم، فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير، كانت درجته في الجنة فوقه ، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/ 119- 121).
الله سبحانه يتفضل على من يشاء من عباده، فيختار بعضهم للنبوة والرسالة، ويكرم بعضهم بالملك، وآخرين بالصحة والمال، ومنعُ الفضل: ليس ظلما، فلا يقول الإنسان إذا لم يجعله الله نبيا: لقد ظُلمت، ولا يقول الفقير إذا منع المال: لقد ظلمت، ولا يملك العبد أن يحجر على سيده التصرف وأن يمنعه من التفضل والتكرم على من يشاء.
وقد اعترض المشركون على الله بنحو هذا. قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الأنعام/53 .
وقال: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ الأنعام/124.
وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ الزخرف/31-32.
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
" وَقَالُوا مقترحين على الله بعقولهم الفاسدة: لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي: معظم عندهم، مبجل من أهل مكة، أو أهل الطائف، كالوليد بن المغيرة ونحوه، ممن هو عندهم عظيم.
قال الله ردا لاقتراحهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ أي: أهم الخزان لرحمة الله، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون، ويمنعونها ممن يشاءون؟
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ أي: في الحياة الدنيا، والحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا.
فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، أولى وأحرى أن تكون بيد الله تعالى، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ، وأن التدبير للأمور كلها، دينيها ودنيويها، بيد الله وحده. هذا إقناع لهم، من جهة غلطهم في الاقتراح، الذي ليس في أيديهم منه شيء، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق." انتهى من "تفسير السعدي" (764).
فالحاصل:
أن تدبير أمر الخلق والرزق إنما هو بيد رب العالمين ، مالك الملك ، ليس لأحد من الخلق في تدبير ذلك ، أو اقتراحه ، شيء من شركة ، أو نصيب من تدبير .
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب الطائع، وإثابة العاصي على معصيته، لا إعطاء الفضل ومنع الفضل.
وتأمل حديث أهل الدثور لتدرك أن الله يتفضل على من يشاء، وأن منع الفضل ليس ظلما.
ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ :" أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ .
فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ؟
قَالُوا : يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا ، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ ؟
فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ البخاري(843)، ومسلم(595).
فتبين بذلك: أن الفقير قد يدرك الغني المتصدق بالذكر، فإن قام الغني بالذكر أيضا فسبق الفقير، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وبالنظر إلى عموم أحوال الناس يعلم أن الغِنى ليس دائما خيرا لصاحبه، فربما كان المال سببا في فتنته أو قلة عمله أو ضعفه، فيكون سببا في نزول درجته في الجنة.
والفقر ليس دائما شرا لصاحبه، فربما كان سببا في صلاحه وكثرة عبادته وقلة ذنوبه، فيكون سببا في رفع درجته في الجنة.
وربما ضعف عمل الفقير، فكانه بلاؤه وصبره سببا في رفع درجته.
فلو فرض أن غنيا وفقيرا، استويا في العمل الصالح، فقد يرتفع الفقير لصبره، وقد يساويه الغني لشكره، ولدقة هذه المسألة ودقة الموازنة فيها حصل الخلاف، على ما سبق ذكره.
وأما أن الغني كسب الدنيا، والفقير خسرها، فهذا ليس مطردا أيضا، فكم من غني: شقي وتعس بماله، وكم من فقير: هو من أسعد الناس.
وقد خُيِّر نبينا صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة ، فاختار الآخرة، وخير بين أن يكون عبدا نبيا، وملِكا نبيا، فاختار أن يكون عبدا نبيا.
والأمر الأهم في هذا كله: أن العبد ليس له الاعتراض على خالقه، ولا أن يظن به السوء أنه يظلمه ، أو يبخسه شيئا استحقه، بل الله تعالى كريم بر رحيم، يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل، أرأيت كيف أمكن الفقيرَ من اللحاق بالغني المتصدق المعتق بكلمات يقولها؟! مع أن الغني لا ينال المال إلا بتعب وجهد، سلم منه الفقير غالبا.
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (222980)، ورقم : (288326) .
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا شكر نعمته، وأن يبصرنا بعيوبنا، وأن يلهمنا رشدنا.
والله أعلم.