ما حكم أو حد من أَمَر أحدًا ما بتعدِ حد من حدود الله، ولنقل مثلًا السرقة، فهل هناك حكم أو حد لمن أمر أحد أن يسرق مثلا بأن تقطع يده مثل السارق؟
الحمد لله.
أولا:
هذه المسألة تتناولها القاعدة الفقهية التي تنص على أن الجناية أو الإتلاف ، إذا اجتمع فيها شخص مباشر لها، وشخص متسبب فيها؛ فيتحملها المباشر لها.
فالمأمور: هو المباشر للجريمة.
والآمر: هو المتسبب فيها.
قال السرخسي رحمه الله تعالى:
" ومعلوم أن المباشر والمتسبب إذا اجتمعا في الإتلاف، فالضمان على المباشر دون المتسبب " انتهى من "المبسوط" (24 / 73).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" إذا استند إتلاف أموال الآدميين ونفوسهم إلى مباشرة وسبب تعلق الضمان بالمباشرة دون السبب ... " انتهى من "القواعد" (2 / 597).
وهذه القاعدة محل اتفاق عند أهل العلم إذا كان المباشر "المأمور" مكلفا بالغا عاقلا غير مكره.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" (وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل به، فقتل، فالقصاص على القاتل) لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه قاتل ظلما، فوجب عليه القصاص كما لو لم يُؤْمَر " انتهى من "الشرح الكبير، مع المقنع والإنصاف" (25 / 60).
لكن إذا كان المباشر للجريمة ، وهو الشخص المأمور ، غير مكلف لصغره أو جنون به؛ ففي هذه الحال يتحمل العقوبة المتسبب؛ لأنه في هذه الحال كالمباشر ، والمباشر كالآلة في يده.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" النوع الثاني: أن يأمر من لا يميز من المجانين والصبيان، أو عبدا أعجميا لا يعلم تحريم القتل بقتله، فيقتله، فعلى الآمر القصاص، دون المأمور؛ لأن المأمور صار كالآلة له، فأشبه الأسد والحية " انتهى من "الكافي" (5 / 143).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" إذا كان المباشر لا يمكن تضمينه؛ لعدم تكليفه، فالضمان يكون على المتسبب، كمن أمر غير مكلف بالقتل، فالضمان على الآمر؛ لأنه هو السبب، وهنا المباشر غير مكلف فلا يمكن تضمينه؛ لأنه لا قصد له، ولولا أمر هذا الإنسان ما قتل" انتهى من "الشرح الممتع" (14 / 92 - 93).
وإذا كان المأمور مكلفا عاقلا بالغا؛ لكنه مكره من طرف الآمر؛ فهذه المسالة محل خلاف بين أهل العلم.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد منه [أي : يقتص] يشترط فيه باتفاق أن يكون: عاقلا بالغا مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره، واختلفوا في المكرَه والمكرِه، وبالجملة الآمر والمباشر.
فقال مالك، والشافعي، والثوري، وأحمد، وأبو ثور، وجماعة: القتل على المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر.
وقالت طائفة: يقتلان جميعا، وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر على المأمور.
وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور أعني: المباشر، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
فقال قوم: يقتل الآمر دون المأمور، ويعاقب المأمور، وبه قال داود، وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال قوم: يقتلان جميعا، وبه قال مالك.
فمن لم يوجب حدا على المأمور؛ اعتبر تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع، لكون المكرَه يشبه من لا اختيار له.
ومن رأى عليه القتل، غلب عليه حكم الاختيار، وذلك أن المكرَه يشبه من جهةٍ المختارَ، ويشبه من جهةٍ المضطرَّ المغلوب، مثل الذي يسقط من عُلُوٍّ، والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع.
ومن رأى قتلهم جميعا؛ لم يعذر المأمور بالإكراه ، ولا الآمر بعدم المباشرة.
ومن رأى قتل الآمر فقط؛ شبه المأمور بالآلة التي لا تنطق.
ومن رأى الحد على غير المباشر؛ اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا بالاستعارة " انتهى من "بداية المجتهد" (4 / 294).
لكن إذا كانت الجريمة لا تتعلق بالقصاص وإنما بحد كالسرقة؛ فإن كون المأمور غير مكلف أو مكره ، لا ينقل الحد إلى الآمر؛ لأنه لم يباشر السرقة.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" مسألة: ( وإن أمر من لا يميز، أو مجنونا، أو عبده الذى لا يعلم أن القتل محرم، بالقتل، فقتل، فالقصاص على الآمر )...
فأما إن أمره بزنى أو سرقة، ففعل، لم يجب الحد على الآمر؛ لأنّ الحد لا يجب إلا على المباشر، والقصاص يجب بالتسبب، ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص " انتهى من "الشرح الكبير، مع المقنع والإنصاف" (25 / 57 - 59).
وينبغي التنبه؛ أنه في الحالات التي يتحمل فيها المأمور الجريمة؛ لا يعني أن الآمر يعفى من كل عقوبة؛ بل للحاكم أن يعاقبه تعزيرا بعقوبة تردعه وتردع أمثاله من الرجوع إلى هذا المنكر.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (12 / 256):
" جمهور الفقهاء: على أن الأصل في التعزير أنه مشروع في كل معصية لا حد فيها، ولا كفارة.
ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله " انتهى.
ثانيا:
ما سبق يتعلق بالعقوبة الدنيوية؛ وأما في الآخرة فالإثم يشترك فيه الآمر والمأمور إن كان مكلفا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا رواه مسلم (2674).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تبعه " انتهى من "طريق الهجرتين" (2 / 775).
والله أعلم.