في اللغة العربية: حرف " قد" إذا أضيف إلى الفعل المضارع تفيد التشكيك، و" قد " إذا أضيفت إلى الفعل الماضي تفيد التحقيق ، والله لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء، فلماذا قال قد نرى، وليس قد رأينا ؟
الحمد لله.
اعلم أخي السائل أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ، وقد سمعه العرب الأول ، وما استشكلوا من عربيته شيئًا ، فلا يمكن لأحد في هذه الأعصار التي ملأتها العجمة ، أن يجد مطعنًا يتعلق بعربية القرآن ؛ بل مهما ورد على ذهنك في ذلك من شيء ، فإنما هو لأمر غاب عنك ، ولعلم لم يبلغك ، تحتاج أن تطلب وجهه ، وتعرف مداركه .
ثم إن أي قاعدة في أي علم لو خالفت القرآن فلا عبرة بها ، فالقرآن حاكم على تلك القواعد لا محكوم بها .
"قد" في هذه الآية : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ تفيد التحقيق ، لا التقليل والشك .
قال "الشنقيطي" في "أضواء البيان" (5/ 561) : " وَلَفْظَةُ (قَدْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ( قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) : لِلتَّحْقِيقِ .
وَإِتْيَانُ (قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ مَعَ الْمُضَارِعِ : كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ الْآيَةَ ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ) الْآيَةَ"، انتهى .
وانظر : "العذب النمير" (1/ 175).
وقال "الطاهر ابن عاشور" : " وَ (قَدْ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلتَّحْقِيقِ ، أَلَا تَرَى أَهْلَ الْمَعَانِي نَظَّرُوا (هَلْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ بـ(ِقَدْ) فِي الْخَبَرِ، فَقَالُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ : إِنَّ (هَلْ) لِطَلَبِ التَّصْدِيقِ؟
فَحَرْفُ (قَد)ْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الْفِعْلِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) مَعَ الْأَسْمَاءِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ : إِنَّهَا جَوَابٌ لِقَوْمٍ يَنْتَظِرُونَ الْخَبَرَ ، وَلَوْ أَخْبَرُوهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَهُ ، لَمْ يَقُلْ قَدْ فَعَلَ كَذَا اهـ.
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ ، مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ بِهِ ، كَانَ الْخَبَرُ بِهِ مَعَ تَأْكِيدِهِ ، مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ ، لِدَفْعِ الِاسْتِبْطَاءِ عَنْهُ ، وَأَنْ يطمئنه ، لِأَن النَّبِي كَانَ حَرِيصًا عَلَى حُصُولِهِ .
وَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِحُصُولِهِ فَتحصل كنايتان مترتبان.
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مَعَ (قَدْ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ ، وَالْمَقْصُودُ تَجَدُّدُ لَازِمِهِ ، لِيَكُونَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ اللَّازِمِ ، وَهُوَ الْوَعْدُ .
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى (قَدِ) الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُضَارِعِ : أَنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ، مِثْلَ رُبَّمَا يَفْعَلُ.
قَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كأنّ أثوابه مُجَّت بفِرْصادِ
وَسَتَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) [الْأَنْعَام: 33] فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ".
وقال: " وَ(قد): تَحْقِيقٌ لِلْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَهُوَ فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ.
فَحَرْفُ (قَدْ): مُخْتَصٌّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ، الْمُجَرَّدَةِ مَنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ وَحَرْفِ تَنْفِيسٍ، وَمَعْنَى التَّحْقِيقِ مُلَازِمٌ لَهُ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْخُولُهَا مَاضِيًا ، أَوْ مُضَارِعًا، وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَى قَدْ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْلَيْنِ.
وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ (قَدْ) إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُضَارِعِ أَفَادَ تَقْلِيلَ حُصُولِ الْفِعْلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ الْكَشَّافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ (قَدْ) يُسْتَعْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيل،ِ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ وَلَيْسَتْ بِدَلَالَةٍ أَصْلِيَّةٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدِي.
وَلِذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِ قَدْ عَلَى فِعْلِ الْمُضِيِّ، وَدُخُولِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي إِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْحُصُولِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) فِي سُورَةِ النُّورِ [64] .
فَالتَّحْقِيقُ يُعْتَبَرُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي إِنْ كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ قَدْ فِعْلَ مُضِيٍّ، وَفِي زَمَنِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ (قَدْ) فِعْلًا مُضَارِعًا.
مَعَ مَا يُضَمُّ إِلَى التَّحْقِيقِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَقَامِ، مِثْلَ تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ فِي نَحْوِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ تَنْشَأُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِتَحْقِيقِ فِعْلٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشُكَّ السَّامِعُ فِي أَنَّهُ يَقَعُ.
وَمِثْلَ إِفَادَةِ التَّكْثِيرِ مَعَ الْمُضَارِعِ، تَبَعًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُضَارِعُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ، كَالْبَيْتِ الَّذِي نَسَبَهُ سِيبَوَيْهِ لِلْهُذَلِيِّ، وَحَقَّقَ ابْنُ بَرِّيٍّ أَنَّهُ لِعَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ، وَهُوَ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
وَبَيْتُ زُهَيْرٍ:
أَخَا ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ
وَإِفَادَةُ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، كَقَوْلِ كَعْبٍ:
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلَّ يُرْعَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنَ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَنْوِيلُ
أَرَادَ تَحْقِيقَ حُضُورِهِ لَدَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَعَ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِنَ الْوَجَلِ الْمَشُوبِ بِالرَّجَاءِ.
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ بَرِيءٌ مِمَّا حَمَّلُوهُ، وَمَا نَشَأَ اضْطِرَابُ كَلَامِ النُّحَاةِ فِيهِ إِلَّا مِنْ فَهْمِ ابْنِ مَالِكٍ لِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ رَدًّا وَجِيهًا.
فَمَعْنَى الْآيَةِ : عَلِمْنَا بِأَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ يُحْزِنُكَ ، مُحَقَّقًا ؛ فَتَصْبِرُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِي كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ) [144] ، فَكَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ ، وَأَحَلْتُ عَلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي"، انتهى .
انظر "التحرير والتنوير" (2/ 26 - 27)، (7/ 196 - 197).
وانظر في المسألة ، "الزيادة والإحسان" لابن عقيلة : (8/ 119 - 121)، "شرح التسهيل" لابن مالك: (1/ 29).
والله أعلم.