قرأتُ حديثا رواه الإمام أبو داود في سننه، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أن رسول صلى عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فهل يُقال هذا الدعاء في التشهد قبل السلام من صلاة الوتر أم بعد السلام؟
الحمد لله.
هذا الحديث الذي أورده السائل الكريم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث صحيح ثابت .
أخرجه أحمد في "مسنده" (751) ، والترمذي في "سننه" (3566) ، وأبو داود في "سننه" (1747) ، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ .
والحديث صححه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (430) .
وقد اختلف أهل العلم في مدلول قوله " في آخر وتره " ، على أربعة أقوال:
الأول : أنه بعد الرفع من الركوع ، في دعاء القنوت .
الثاني : في السجود .
الثالث : بعد التشهد قبل السلام .
الثالث : بعد السلام .
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/324) :" وَقَدْ رَوَى أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ ، أَنَّهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهُ ، وَبَعْدَهُ .
وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّسَائِيِّ: كَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ .
وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ .
فَلَعَلَّهُ قَالَهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَبَعْدَهَا " انتهى.
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (3/952) :" ( وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وَتْرِهِ ، أَيْ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِحْدَى رِوَايَاتِ النَّسَائِيِّ كَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ ". اهـ
وينظر أيضا: " لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح"، للشيخ عبد الحق الدهلوي (3/383).
وهذه الرواية التي أشار إليها ابن القيم وغيره من أهل العلم تحدد موضع الدعاء أنه بعد الصلاة وليس في محل القنوت ، إلا أنها لا تثبت ، فلو ثبتت لكانت قاضية في النزاع .
وقد أخرجها النسائي في "السنن الكبرى" (10661) ، من طريق علي بن حجر ، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1992) ، من طريق أبي الربيع ، كلاهما عن إِسْمَاعِيل ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ:" بِتُّ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، اللهُمَّ لَا أَسْتَطِيعُ ثَنَاءً عَلَيْكَ، وَلَوْ حَرَصْتُ، وَلَكِنْ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ .
وخالفهما يحيى بن حسان ، كما عند النسائي في "السنن الكبرى" (10662) ، فرواه عن إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، نَحْوَهُ .
وهذه الرواية شاذة ، لمخالفتها رواية علي بن حجر وأبي الربيع .
هذا، مع أن مدار الرواية ، من الوجهين المذكورين: على عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ؛ ورواية إبراهيم بن عبد الله بن عبد القاري عن علي بن أبي طالب مرسلة ؛ فالحديث معل بالانقطاع.
وقد نصَّ على ذلك أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (2/108) ، وأبو زرعة الرازي كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (30) .
هذا وكثير من أهل العلم رجح كون هذا الدعاء يقال في القنوت .
ومن هؤلاء ابن نجيم في "البحر الرائق" (1/318) ، والماوردي في "الحاوي الكبير" (2/152) ، وأبو يعلى في "التعليق الكبير" (2/215) ، وابن قدامة في "المغني" (2/112) ، وابن مفلح في "الفروع" (2/362) ، والبهوتي في "كشاف القناع" (1/420) .
ومنهم من استحبه بعد التشهد لأنه محل الدعاء .
قال صدر الدين علي بن علي بن أبي العز الحنفي في "التنبيه على مشكلات الهداية" (2/660) :" وحديث علي رضي الله عنه فيه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إي أعوذ برضاك من سخطك ... " إلى آخره . رواهما أهل السنن الأربعة ، والإمام أحمد . وليس فيها قبل الركوع ولا بعده . ويحتمل أن يكون المراد من آخره : بعد التشهد ؛ فإنه محل الدعاء بالإجماع " انتهى.
ومنهم من استحبه في السجود للحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" (486) ، من حديث عَائِشَةَ ، قَالَتْ:" فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ .
ومنهم من استحبه بعد السلام من الوتر ، كما ذكر ذلك النووي في "المجموع" (4/16) ، فقال :" يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْوِتْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ وَأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ فَفِيهِمَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ "انتهى.
وخلاصة الأمر :
أن الحديث ثابت ، والخلاف في تفسير قوله :" فِي آخِرِ وِتْرِهِ " سائغ بين أهل العلم ، فمن ذكره في دعاء القنوت فلا بأس ، وهو ما رجحه جماعة من المحققين من أهل العلم كما قدمنا ، ومن قاله في سجوده ، فهو سنة ثابتة أيضا من غير هذا الحديث، ومن قاله في آخر الوتر قبل السلام أو بعده لا ينكر عليه كذلك ، فإن اللفظ محتمل ، وبكلٍ قال أهل العلم ، والله أعلم .
ومن أراد الاستزادة حول القنوت في الوتر يمكنه مراجعة هذه الأجوبة برقم : (20031)، (174908) .