قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فأنزل الله: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)، ثم أعاد عمر قوله، فأنزل الله: (لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى)، ثم أعاد عمر قوله، فأنزل الله: (انما الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)"، فإذا كانت الخمر حلالا لولا أن قال عمر بن الخطاب ما قاله وإصراره عليه أكثر من مرة، مع إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:(إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته). فلماذا أصر عمر بن الخطاب لهذا الحد أن يحرم الله ما هو حلالا حتي وإن كانت الخمر فيها أضرار عدة؟
الحمد لله.
الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، فهو صاحب الأمر والنهي، كما قال سبحانه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف/55.
وهو المشرع لا مشرع غيره، كما قال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الشورى/21.
وعمر رضي الله عنه كان ملهما موفقا، ومن التوفيق أن توافق رغبة العبد ، مراد الله تعالى، وينزل الوحي على نحو ما يقترح أو يراد، وهذا حصل مع عمر رضي الله عنه في قضايا، كالحجاب، وأسارى بدر، وغير ذلك.
ولما كان عمر بفطرته يكره الخمر، -وهذا حال جماعة من الصحابة أيضا مع سيدهم ونبيهم صلى الله عليهم وسلم ، فإنه لم يشرب الخمر قط-، فقد دعا عمر ربه أن يبين في الخمر بيانا شافيا، فنزل تحريم الخمر على التدريج، كما روى أحمد (378)، وأبو داود (3670)، والترمذي (3049)، والنسائي (5540) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي البَقَرَةِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ)البقرة/219، فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى(النساء/ 43، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنَ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي المَائِدَةِ: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ)المائدة/91 - إِلَى قَوْلِهِ - (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)المائدة/91؛ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا" .
وجاء في بعض الروايات: " لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)..."
والمقصود: لما قارب نزول تحريم الخمر.
وهذا موافق لكونه محدَّثا ملهما مسددا، بتوفيق الله وتسديده له. كما روى البخاري (3469)، ومسلم (2398) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ .
قال مسلم: قالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ.
وعمر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الخمر، حتى يقال إنه يدخل في حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ رواه البخاري (7289)، ومسلم (2358).
وإنما سأل ربه تبارك وتعالى.
وأيضا: فالسؤال الممنوع هو ما كان تكلفا عن أمر لا حاجة للسائل إليه.
قال البغوي رحمه الله: " المسألة وجهان: أحدهما: ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يُحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز مأمور به، قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل/43 ، وقال الله تعالى: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) يونس/94 . وقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل، فأنزل الله سبحانه وتعالى بيانها في كتابه، كما قال الله عز وجل: (يسألونك عن الأهلة) البقرة/189، (ويسألونك عن المحيض) البقرة/222، (يسألونك عن الأنفال) الأنفال/1.
والوجه الآخر: ما كان على وجه التكلف، فهو مكروه، فسكوت صاحب الشرع عن الجواب في مثل هذا زجر وردع للسائل، فإذا وقع الجواب، كان عقوبة وتغليظا.
والمراد من الحديث هذا النوع من السؤال، وقد شدد بنو إسرائيل على أنفسهم بالسؤال عن وصف البقرة مع وقوع الغنية عنه بالبيان المتقدم، فشدد الله عليهم" انتهى من "شرح السنة" (1/ 310).
وقال النووي رحمه الله: "والصواب الذي قاله الخطابي وصاحب التحرير وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث : أن المراد بالجرم هنا الإثم والذنب ، قالوا : ويقال منه جرَم بالفتح ، واجترم وتجرم : إذا أثم .
قال الخطابي وغيره : هذا الحديث فيمن سأل تكلفا ، أو تعنتا ، فيما لا حاجة به إليه . فأما من سأل لضرورة ، بأن وقعت له مسألة ، فسأل عنها : فلا إثم عليه ، ولا عتب . لقوله تعالى:( فاسألوا أهل الذكر ) " انتهى من "شرح مسلم" (15/ 111).
وأيضا: فلو كان عمر مخطئا ، لما دعاه النبي صلى الله عليه في كل مرة ليقرأ عليه ما أنزل الله في الخمر، ولعاتبه على سؤاله ربه أو نهاه عن إعادته.
ثم إن الذم إنما يكون في تحريم شيء من الطيبات ، وما لا مضرة فيه، أما الخمر فقد تبين أنها أم الخبائث وأن ضررها أعظم من نفعها، وأن الشريعة ترفقت بالناس ، فحرمتها على مراحل، فليست الخمر أمرا يحزن مؤمن على تحريمها! أو يدخل بتحريمها ضرر على المسلمين، بل هذه القصة منقبة لعمر رضي الله عنه، ودليل على سلامة فطرته، واستقامة تفكيره، وأنه مسدد ملهم.
واعلم أن القدح في عمر رضي الله عنه : قدح في رب العزة جل جلاله، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم.
قدح في رب العزة الذي اختاره ، وجعله صاحبا ولصيقا بأفضل رسله، ثم جعله خليفة على أعظم الأمم وخيار الناس عند الله، وفيهم أفضل الناس بعد الأنبياء من كبار أصحاب النبي صلى الله وسلم، ولو كان عمر منافقا أو كافرا، لكان هذا طعنا في القرآن، وحديثه عن كمال الدين، ودخول الناس في دين الله أفواجا.
وهو قدح في النبي صلى الله عليه وسلم وفي نجاحه في دعوته؛ إذ غاب عنه فساد أقرب الناس إليه.
ولهذا فإن بعض الزنادقة قد صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فشل في دعوته، لأنه قرب المنافقين كأبي بكر وعمر وعثمان، وهذا كفر وردة من هذا الزنديق، وقد صرح بما يدور في أذهان كثير من الزنادقة من أمثاله؛ إذ كيف يكون هؤلاء الصحابة منافقين؛ ويختارهم الله لصحبة نبيه، ثم يمتن عليه فيقول: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا الفتح/29
ثم يقول في آخر الأمر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًاالنصر.
فنعوذ بالله من سوء الظن بالله وبرسوله وبأوليائه.
والله أعلم.