سؤالي: في قول الله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، فهذه دلالة واضحة على عجزهم ولو اجتمعوا على الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته، ولكن عندما جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه القرآن لم يقبله إلا بشهادتين، فلماذا لم يكتف بشخص واحد، ويجعل المعيار ما يراه في الآية من بلاغة وفصاحة معجزة؟
الحمد لله.
أولًا:
اتسعت الفتوحات في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، واتسعت معها حاجة الناس إلى المصاحف، وكان القرآن يُؤخذ بالتلقي، يأخذه الآخر عن الأول، فلما اتسعت الفتوحات أخذ الناس من المصاحف مباشرةً، فحصل بينهم اختلاف في القرآن، أدى إلى تجديد فكرة جمع القرآن مرة أخرى مع تغير في منهج الجمع.
عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان: "قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة.
فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة: "أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك»، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم" ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق." رواه البخاري (4987).
ففي هذا الحديث بيان لقضية جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد تم في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين.
قام الجمع على خطوات محددة، وهي:
1- أن سبب الجمع: اختلاف الناس في القراءة.
2- أن الذي أشار به: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
3- أن لجنة الجمع تكونت من: زيد بن ثابت الأنصاري، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وأبي بن كعب.
4- وكان مقصد الجمع: نسخ مصحف أبي بكر رضي الله عنه في عدد من المصاحف عبر منهج معين، وإرسال قارئ مع كل نسخة ليُقرأ أهل المصر الذين أرسل إليهم.
5- أن منهج الجمع: نسخ مصحف أبي بكر في عدد من المصاحف، وأن يكتب بلسان قريش عند الاختلاف، وأن يحرق ما عدا هذه المصاحف.
وبعد أن تم نسخ الـمصاحف العثمانية بالكيفية التي أوضحناها سابقًا، أمر أمير الـمؤمنين عثمان بن عفان بإرسالها إلى الأقطار الإسلامية الشهيرة، وأرسل مع كل مصحف مقرئًا من الذين توافق قراءته في أغلبه قراءة أهل ذلك القطر، وذلك لأن التلقي أساس في قراءة القرآن.
وأمر أن يحرق كل ما عداها من الصحف أو الـمصاحف الشخصية الـموجودة لدى الصحابة مما تخالفها؛ ليستأصل بذلك سبب الخلاف والنزاع بين الـمسلمين في قراءة كتاب الله، فاستجاب لذلك الصحابة رضي الله عنهم، فجمعت الـمصاحف والصحف وحرقت أو غسلت بالـماء.
انظر: " فتح الباري"(9/17)"، "فضائل القرآن"، لأبي عبيد(284)، "تاريخ المدينة" لابن شبة(3/ 1004).
ثانيًا:
اعتمد زيد على الحفظ والمكتوب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في التأكد، وإرساءً لمنهج لا يختلف الناس عليه، إذ قد يختلف الذوق وإدراك الإعجاز من شخص لآخر، فلا يمكن أن يحال الناس عليه؛ فيقال: إن هذا معجز، ولذلك جعلناه قرآنا، أو اكتفينا بحفظ واحد له دون الثاني الذي شرطناه في الإثبات؛ وأما المنهج الذي وضعه زيد: فهو منهج واضح، مطرد، معياري، ثابت؛ فلا خلاف عليه.
وقد رضي الصحابة بهذا العمل، وعن علي رضي الله عنه قال: "رحم الله عثمان، لو وليته؛ لفعلت ما فعل في المصاحف".
وعن مصعب بن أبي وقاص قال: "أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك»، أو قال: «لم يعب ذلك أحد".
انظر: "فضائل القرآن"، لأبي عبيد(284)، "تاريخ المدينة"، لابن شبة (3/ 1004).
والله أعلم