رأيت فتوى في موقعكم تقول: إن على الإنسان ألّا يدعو بالمستحيل، وضرب مثال أن يكون شخص قد علم أنه رسب في مادة فالدعاء بأن ينجح في مثل هذه الحالة عبث. سؤالي أنني رأيت شخصا حدث معه مثل ذلك، ودعا الله تعالى، وفي اليوم التالي زِيدت درجات الطلاب، وغيرت نتيجته ونجح، فكيف أجمع بين ما قرأته وبين ما حدث لهذا الشخص؟ ورأيت أيضا في أحد المواقع "وقال الحصكفي في الدر المختار: ويحرم سؤال العافية مدى الدهر، أو خير الدارين، ودفع شرهما، أو المستحيلات العادية، كنزول المائدة، قيل: والشرعية. اهـ." ولكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث لعائشة قولي : (اللهمَّ إني أسألُك من الخيرِ كلِّه عاجلهِ وآجلهِ ما علمتُ منه وما لم أعلمْ، وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّهِ عاجلهِ وآجلهِ ...الحديث " أليس خيري الدارين داخل في الخير كله ؟ فلماذا ينها عنه ؟ وأيضا لو كان المستحيلات عادة وخوارق العادات لا يجوز الدعاء بها، فكيف يدعو زكريا عليه السلام بأن يكون له ولد وهو كبير وامرأته عاقر؟ وكيف يدعو الذين انطبقت عليهم الصخرة أليس هذا من خوارق العادات ؟
الحمد لله.
أولا:
ضابط الدعاء المشروع أن يكون على وجه لائق بتعظيم الله تعالى، فيدعوه رغبا ورهبا، طامعا في الإجابة، وخائفا من تقصير نفسه.
قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف/55 – 56.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وتأمل كيف قال في آية الذكر: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) الآية. وفي آية الدعاء: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) ؛ فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء " انتهى من"مجموع الفتاوى" (15 / 19).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مُدِلٍّ على ربه، قد أعجبته نفسه، ونزَّل نفسَه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ. " انتهى من" تفسير السعدي" (ص 292).
والهدي الشرعي الذي يوافق تعظيم الله تعالى والصدق في الدعاء، هو أن المسلم يقوم بما عليه من الأسباب، ويسأل الله تعالى الإعانة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم ( 2664).
وإذا نزلت به مصيبة، أو فاقة: لم يتقدم بين يدي رب العالمين، ومالك الملك باقتراح أمر فيه خرق للعادة، وتغيير للسنة العامة؛ بل يتعامل معها بالصبر الواجب واتخاذ الأسباب المشروعة والممكنة وأن يدعو الله تعالى دعاءً مجملا بكشف الكربة والدعاء بالفرج من غير اقتراح هيئة معينة.
والله يجيب عبده بما يشاء، وقد يخرق له العادة، لما يرى من صدقه وبذله ما في وسعه، وعدم تقصيره.
قال الحليمي رحمه الله تعالى:
" وقد يجوز أن تحدث للعبد حاجة وضرورة، فيسأل الله عز وجل كشفها عنه سؤالا مطلقا، إلا أن الله عز وجل عند الإجابة ينقض له عادة، أو يفعل ذلك به من غير مسألة، جزاء له، لتوكله ، وقوة إيمانه، مثل أن يكون في بادية لم يدخلها إلا في ثواب الله عز وجل، على وجه مأذون له فيه، فتصيبه مخمصة شديدة، وليس معه، ولا قُرْبَهُ أحد، فيقول: اللهم ادفع عني الجوع بما شئت، فيحدث الله مكانه طعاما، فيأكله.
وإن أصابه برد شديد خاف على نفسه منه، ولم يكن له ما يتدثر به، فيقول: اللهم اصرف عني البرد بما شئت، فيحدث له كسوة ليلبسها. أو يشبع الأول بلا طعام، ويدفئ الثاني بلا كسوة.
ومثل هذا: أن يسأل اللهَ تعالى أعمى لا قائد له، ولا أحد يسعى في حوائجه: أن يرحمه، ويكفيه بما شاء، فيرد البصر عليه مكانه؛ لأن هذه ضرورات واقعة، لا كاشف عنها إلا الله جل ثناؤه.
فمن رغب عن هذه المسألة، مع حدوث الضرورة: فلم يوف العبودية حقها " انتهى من"المنهاج" (1 / 525).
وبهذا تفهم قصة أصحاب الغار، فهم لم يقترحوا هيئة معينة خارقة للعادة لإزالة الصخرة، بل طلبوا من الله تعالى النجاة، وقد خلت أيديهم من أسباب النجاة، والله قد ينجيهم بما يخرق العادة كما حصل، وقد ينجيهم بأن يهدي إليهم من المارة من يسمع حسهم وصوتهم، ويعينهم على إزالة الصخرة.
وبناء على ما سبق؛ فمن يدعو الله بتغيير نتيجته في الامتحان إن كان على وجه يستحيل عادة، كأن تتحول العلامة بنفسها في سجلات النتائج، ونحو هذا، فهذا لا شك أنه دعاء فيه اعتداء لاقتراحه هذه الهيئات من خرق العادة، بل عليه أن يتبع طريق التكليف الشرعي بالصبر على قضاء الله تعالى، وبذل الأسباب المشروعة من الاجتهاد ونحوه، وأن يدعو الله تعالى بأن يفرج همه، ويصلح حاله ويوفقه.
وأما إن كان الدعاء لا يقتضي خرق العادة، كأن يتصور أن الإدارة التعليمية ربما تعيد النظر في تقييم الإجابات، وربما دعمت الطلاب بما هو مناسب من الدرجات، فيدعو الله تعالى أن يحقق له ذلك، هذا فهذا ليس من باب الدعاء بما هو مستحيل العادة.
ثانيا:
وكذا قصة زكريا عليه السلام فدعاؤه كان على وجه التضرع رغبا ورهبا.
قال الله تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء/89 – 90.
على أن القياس هنا غير صحيح بالمرة؛ فزكريا عليه السلام نبي من الأنبياء، والدعاء بخرق العادة: مما جرت به عادة الأنبياء، فهم يعلمون أن الله يعطيهم من الآيات ما يؤيد به دعوتهم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن؟
فالجواب: أن ذلك جائز في زمان الأنبياء، وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى " انتهى من "تفسير القرطبي" (13 / 413).
ثم إن زكريا عليه السلام لما دعا بالذرية، كان لقصد استمرار دين الحق في قومه، وليس لمحض المصلحة الدنيوية.
قال الله تعالى عن دعاء زكريا عليه السلام: ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) مريم/5 – 6.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( خِفْتُ الْمَوَالِيَ )، أي: خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي: أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فارزقني ولدا يقوم بعدي بالدين حق القيام .
وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله: ( يَرِثُنِي ) أنه إرث علم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال.
ويدل لذلك أمران:
أحدهما: قوله: ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ )، ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني: ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا نورث، ما تركنا صدقة )... " انتهى من"أضواء البيان" (4 / 260 – 261).
ثالثا:
وأما ما قاله بعض أهل العلم: " ويحرم سؤال العافية مدى الدهر، أو خير الدارين، ودفع شرهما، أو المستحيلات العادية، كنزول المائدة، قيل: والشرعية".
فالظاهر أن "الخير" في هذا القول: ما طبع العبد على حبه، من المعافاة والغنى والصحة ونحو هذا، و"الشر": ما طبع الإنسان على كراهته، من المرض والفقر والموت ونحوه.
فالمقصود بذلك الدعاء الذي يعارض ما أخبر به الوحي، وجرت به سنة الله في خلقه، من أن الإنسان مبتلى في هذه الدنيا، فلا بد وأن يصاب بشيء من المصائب وآخرها موت الإنسان.
وهذا لا يتعارض مع الدعاء الوارد في حديث عائشة، وقد سبق بيانه في جواب السؤال رقم (227973).
وفيه: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ .
فالخير قد يكون فيما يكرهه الإنسان، والشر قد يكون فيما يحبه الإنسان.
قال الله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ البقرة/216.
فقد يصاب العبد بمرض ويكون خيرا له ، لما فيه من الثواب الجزيل ، وتكفير الذنوب .
قال الطحطاوي رحمه الله تعالى:
" ( أو خير الدارين، ودفع شرهما ) إلا أن يقصد به الخصوص؛ إذ لا بد أن يدركه بعض الشر، ولو سكرات الموت.
والمراد بالخير والشر: ملائمات البدن، ومنافراته، وأما سؤال الخير، والاستعاذة من الشر، بحسب ما علمه الله تعالى: فجائز؛ لأن الخير كذلك قد يكون بمرض وفقر وفقد ولد؛ لما يترتب عليها من الثواب، والشر في ضده ومن ذلك: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ) ... " انتهى من"حاشية الطحطاوي على الدر المختار" (1 / 229).
والله أعلم.