هناك أحد الأخوة يقول : بعض الأحيان يأخذ العلماء بالحديث الضعيف ولا يؤخذون بالحديث الصحيح، فما صحة هذا الكلام ؟
الحمد لله.
من المتقرر أنه لا يحتج في دين الله تعالى بشيء من الأحاديث إلا بما صحت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح هو الذي تقوم به الحجة لا الضعيف.
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
" ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا، منها:
أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدِّث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه: لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظا إن حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه. إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا: يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي.
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهى بالحديث موصولا إلى النبي أو إلى من انتهي به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت " انتهى من"الرسالة" (ص 370 – 372).
فإذا توفرت في الحديث شروط الصحة، فهو حجة يجب العمل به باتفاق الأمة.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار، فيما علمت، على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ، ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافا " انتهى من"التمهيد" (1 / 2).
وإذا ترك أهل العلم أو بعضهم العمل بحديث توفرت فيه شروط الصحة عندهم، فهذا راجع إلى وجود دليل آخر يرونه أرجح من هذا الحديث، كما أشار إلى بعض هذا ابن القطان رحمه الله تعالى، حيث قال:
" واتفقوا على وجوب المصير إلى خبره، بالاستعمال له، ما لم يعارضه ما يزيل استعماله، أو يرده دليل يخصه.
فإذا تعرى من أن يعارضه ما هو أولى منه - إما عمل سائر، أو فعل متواتر، أو نسخ له بغيره- اتفق المسلمون كلهم ، من أهل السنة ، على استعماله والمصير إليه " انتهى، من "الإقناع" (1 / 66).
وراجع للأهمية جواب السؤال رقم: (270890).
والسبيل عند تعارض الأدلة عند العالم مع تعذر الجمع بينها، هو وجوب الترجيح بينها ، والعمل بما يراه أرجح من حيث الصحة والدلالة.
قال الآمدي رحمه الله تعالى:
" وأما أن العمل بالدليل الراجح واجب: فيدل عليه ما نقل وعلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظَّنَين... " انتهى من "الإحكام في أصول الأحكام" (4 / 292).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين " انتهى من"مجموع الفتاوى" (13 / 114 - 115).
فترك العالم العمل بالحديث الذي توفرت فيه شروط الصحة، لوجود ما هو أرجح منه عنده، هو محل اجتهاد بين العلماء، وهو سبب من أسباب الاختلاف بين المذاهب الفقهية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما: يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه.
وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:...
السبب الثامن:
اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة. مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز، إلى أنواع المعارضات.
وهو باب واسع أيضا؛ فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.
السبب التاسع:
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه؛ أو نسخه؛ أو تأويله إن كان قابلا للتأويل، بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية، أو حديث آخر، أو مثل إجماع... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (20 / 232 - 247).
ثانيا:
الحديث الذي ثبت عدم صحته لا يؤخذ به
أما الحديث الضعيف، الذي ثبت عند أهل العلم ضعفه وعدم صحته، فهذا الأصل فيه أنه ليس بحجة في دين الله تعالى ولا يؤخذ به.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام، فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء.
وأما فعل كثيرين من الفقهاء، أو أكثرهم، ذلك، واعتمادهم عليه: فليس بصواب؛ بل قبيح جدا؛ وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه: لم يحل له أن يحتج به، فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام " انتهى من"شرح صحيح مسلم" (1 / 126).
لكن العلماء قد يعملون بمعنى هذا الحديث الضعيف، أو يقولون بمقتضاه؛ لقيام ما يدل على صحة هذا المعنى، وإن لم يصح سنده.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" والحديث الضعيف لا يُدفع، وإن لم يحتج به، ورب حديث ضعيف الإسناد، صحيح المعنى " انتهى من"التمهيد" (1 / 58).
وهذا له أوجه عدة، منها:
أن يكون معنى الحديث مما أجمع عليه أهل العلم، فالحجة فيه الإجماع وليس الحديث نفسه. ومن أمثلة هذا الوجه، ما رواه ابن ماجه (521)؛ عن رِشْدِين قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ). وهذا الحديث يضعف إسناده أهل العلم.
قال البيهقي رحمه الله تعالى:
"... قال الشافعي رحمه الله: وما قلت: من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه، ولونه: كان نجسا، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، من وجه لا يثبت أهل الحديث إسناده " انتهى. "معرفة السنن" (2 / 82).
لكن هذا الحديث: معناه صحيح، وهو أن الماء إذا خالطته نجاسة حتى ظهر أثرها في ريح الماء أو طعمه أو لونه ، فإنه يصبح نجسا، ودليل صحة هذا المعنى هو الإجماع.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت النجاسة الماء طعما، أو لونا، أو ريحا، أنه نجس ما دام كذلك، ولا يجزي الوضوء والاغتسال به " انتهى من"الأوسط" (1 / 260).
ومن ذلك: أن يكون هذا الحديث الضعيف الإسناد، قد تأيد بعمل السلف من الصحابة والتابعين على وفق معناه، أو تتابع أهل العلم على مر العصر على القول به.
ومن ذلك أيضا: أن يكون الحديث ضعفه يسيرا ليس شديدا، وفي العمل به احتياط للواجبات وترك المحرمات، فيعمل به من باب الاحتياط. ومن هذا الباب مسألة العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال إذا كان متعلقا بعمل ثبتت مشروعيته بأدلة أخرى، وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (44877).
والله أعلم.