الحمد لله.
أولا:
جاء النهي عن التشريك اللفظي بين الخالق والمخلوق حماية لجناب التوحيد، ومراعاة للأدب مع الله، كما روى أحمد (3247) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: (جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا، مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ) وصححه محققو المسند.
وروى أحمد (23265)، وأبو داود (4980) عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ) وصححه الألباني.
وروى أحمد (23339)، وابن ماجه (2118) واللفظ له عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ).
والحديث صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"، وشعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
ولفظ أحمد: " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد كنت أكرهها منكم، فقولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد) ".
قال الخطابي رحمه الله: " وذلك أن الواو حرف الجمع والتشريك، وثُم حرف النسق بشرط التراخي، فأرشدهم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله سبحانه على مشيئة من سواه" انتهى من "معالم السنن" (4/ 131).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب رحمه الله:
"فإن قلت: قد ذكر النحاة أن " ثم " تقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، كالواو، فلم جاز ذلك بثم، ومنع منه الواو.
قيل: النهي عن ذلك إنما هو إذا أتى بصورة التشريك جميعًا، وهذا لا يحصل إلا بالواو، بخلاف " ثم "، فإنها لا تقتضي الجمع، إنما تقتضي الترتيب، فإذا أتى بها زالت صورة التشريك والجمع في اللفظ.
وأما المعنى، فلله تعالى ما يُختص به من المشيئة، وللمخلوق ما يختص به " انتهى باختصار من" تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد " (519-520)
فالحديث لم ينف مشيئة العبد، ولا أن يُعلق عليها التصرف، لكن نهى عن الاقتران اللفظي بحرف الواو التي تفيد الجمع، وتوهم أن مشيئة العبد مساوية لمشيئة الله.
ثانيا:
لا حرج في تعليق الأمر على مشيئة العبد مفردة، كأن يقول: إن شئت، أو إن شاء فلان، أو ما شاء فلان؛ إذ لا محذور في هذا.
وقد روى البخاري (449) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتِ) فَعَمِلَتِ المِنْبَرَ.
وروى ومسلم (1460) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ هَذَا فِيهِ، قَالَ: (إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ، وَأُسَبِّعَ لِنِسَائِي، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائِي).
وهذا كثير جدا في السنة.
وعليه ؛ فلا إشكال لو قال: فلان حبيبي أو أحب فلانا، فلا تشريك هنا.
وإنما كان ينبغي السؤال عما لو شرّك بالواو فقال: أحب الله وفلانا، هل يجوز أم يلزم أن يأتي بثُم فيقول: أحب الله ثم فلانا؟
والجواب: أن الإتيان بالواو هنا جائز، وأنه ليس كل تشريك في اللفظ ممنوعا، وإنما هذا في الأمور القدرية التكوينية، بخلاف غيرها كالأمور الشرعية ك (أطيعوا الله والرسول)، أو أفعال العباد التي لا تعلق لها بالأمور التكوينية أصلا، كأن يقول العبد: أحب الله ورسوله، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم من قال ذلك، كما في حديث أَنَس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟) قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ" رواه البخاري (3688)، ومسلم (2639).
فإذا كان يجوز أن نقول: "أحب الله ورسوله" بالتشريك بالواو، فأولى بالجواز ما لو انتفى التشريك؛ كأن يقول: أحب الرسول، أو أحب فلانا، أو فلانا حبيي.
والذي سبب لك الإشكال هو التعليل الذي ذكرته وهو قولك: " لأن صفات الله مطلقة، وكذلك ما ينبغي أن يكون لله يجب أن يكون مطلقا له كالتوكل".
فقولك: ما ينبغي أن يكون لله يجب أن يكون مطلقا، يقتضي أن يمنع الإنسان من قوله: أطيع الرسول، أو أطيع أبوي، وأحب الرسول، وأحب أبوي، وهذا لم يقله أحد.
وما أكثر ما جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب كذا، من الرجال، والنساء، والأطعمة، والألبسة، وغير ذلك.
والصواب ما ذكرنا:
أن العلة هي التشريك اللفظي بالواو، وليس مجرد نسبة المشيئة للعبد أو تعليق الأمر عليها؛ فقد أجاز الني صلى الله عليه وسلم ذلك إذا كان العطف بثُم.
وأن ذلك ممنوع في الأمور القدرية التكوينية، كالمشيئة، والتوكل، ولولا الله وفلان.
وأما غير ذلك فيباح فيه التشريك، فضلا عن الإفراد.
وقد سبق في جواب السؤال رقم: (161522) أن من العلماء من منع التشريك بالواو في كل شيء مراعاة للأدب مع الله، لكن الأظهر هو التفصيل.
والله أعلم.