الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) الشورى/49–50.
في هذه الآية الكريمة : إثبات لكمال ملك الله تعالى ومشيئته، فيهب للولد لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء، لـ (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:
" واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات؛ فخلقه الأشياء يجري على وَفق علمه وحكمته.
وهو قدير نافذ القدرة، فإذا علم الحكمة في خلق شيء أراده، فجرى على قدره ...
وتفصيل المعنى: أنه عليم بالأسباب والقوى والمؤثرات التي وضعها في العوالم، وبتوافق آثار بعضها، وتخالف بعض، وكيف تتكون الكائنات على نحو ما قدر لها من الأوضاع، وكيف تتظاهر فتأتي الآثار على نسق واحد، وتتمانع فينقص تأثير بعضها في آثاره، بسبب ممانعة مؤثرات أخرى، وكل ذلك من مظاهر علمه تعالى في أصل التكوين العالمي، ومظاهر قدرته في الجري على وفاق علمه" انتهى من"التحرير والتنوير"(25/140).
ثانيا:
وما يتداول من أن الباحثين قريبون من الوصول إلى علاج العقم - وليس مجرد ضعف الإخصاب وقلته - بواسطة استخدام الخلايا الجذعية؛ لا ينقض خبر الله تعالى: ( يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا )؛ وبيان ذلك من وجوه:
الأول:
مثل هذه الأخبار عن قرب علاج هذا العقم، هي مجرد أخبار صحفية تتداولها وسائل الإعلام عن أحلام بعض الباحثين، وليست إخبارا بحقيقة ثابتة، ولذا لو تتبعت المقالات الصحفية عن هذا الخبر ستجدها تحمل ما يبيّن أنه مجرد أحلام وأماني، فهي ترد بصيغة "ربما" و"احتمال" و"نأمل في المستقبل" ونحو هذا مما لا يتناسب مع أسلوب الأخبار العلمية المؤكدة.
كما أنهم ينقلون في ثنايا هذه المقالات من كلام الخبراء ما يبطل هذه الأخبار.
فبعض الخبراء يرى: " أن هذه الخلايا المشابهة للحيوانات المنوية المأخوذة من خلايا جذعية جنينية تبعد كثيرا عن كونها خلايا منوية حقيقية".
وبعضهم يحكم بناء على تخصصه العلمي في الحيوانات المنوية وتمتد خبرته 20 عاما: " بأنه غير مقتنع -بناء على المعلومات المقدمة في هذه الورقة البحثية – أن الخلايا التي جرى إنتاجها يمكن أن يطلق عليها بشكل دقيق حيوانات منوية كاملة".
وآخر يصرح: " إن الوصول لعملية تخليق الحيوانات المنوية للبشر من أجل علاج العقم عند الرجال لا يزال أمرا بعيد المنال".
وخبيرة أخرى تصرح: " بأن التطبيقات الطبية الإكلينيكية ليست في الأفق المنظور، وقالت: إن أغلب طموحنا في محاكاة العمليات الإنجابية مخبريا هو بغرض أن نفهم هذة العمليات أكثر، وأنهم لا يعرفون سوى القليل عن الديناميات الأساسية التي تحدث في بدايات الحياة" انتهى.
ولا يعقل أن يعترض على قول الله تعالى بمجرد احتمال وخيال من بعض الناس.
فلا يصح أنه يقال للشيء غير الموجود: إنه موجود، ثم نقول: إن وجوده يناقض القرآن الذي أخبر بعدم وجوده!
الثاني:
العقم داء من الأدوية، فلم يرد في الشرع ما يمنع العقيم من السعي للعلاج، ولا أن الله جعل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) رواه البخاري(5678).
وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه مسلم(2204).
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: "قَالَتِ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَتَدَاوَى؟
قَالَ: (نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ قَالَ: دَوَاءً إِلَّا دَاءً وَاحِدًا).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟
قَالَ: (الهَرَمُ) رواه أبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" ويجوز أن يكون قوله: ( لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ )، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يُبْرِئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي؛ نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها، لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرا، ومتى لم يقع المداوي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثَمَّ مانع يمنع من تأثيره، لم يحصل البرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين في الحديث " انتهى من"زاد المعاد" (4/13).
وعلى ذلك؛ فوجود الدواء لا يعني القضاء على المرض وشفاء جميع المرضى به، كما هو معلوم، والآية الكريمة علقت وجود العقم على مشيئة الله : (ويجعل من يشاء عقيما) .
فحتى لو اخترعوا له علاجا، فهذا العلاج غير مؤثر بذاته، فإذا شاء الله أن يسلبه السببية والتأثير لفعل، ويبقى من أراد الله أن يكون عقيما يبقى عقيما ولا ينفعه علاج ولا دواء.
وقد اكتشف العلماء واخترعوا أدوية لمعظم الأمراض. ولكن ... هل انتهت هذه الأمراض من الوجود؟ لا تزال موجودة، ولا يزال الناس يموتون بسببها. وقد يتناول مريضان دواء واحد، يشفى الأول، لأن الله أراد له ذلك، ولا يشفى الثاني، لأن الله أراد له ذلك أيضا. فتبقى مشيئة الله هي العامة الغالبة الحاكمة على كل شيء، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثالث:
هذا الاستشكال الذي ذكرته إنما قد يرد في الخاطر لو كانت أسباب العقم محدودة، لكنها أسباب متعددة ومتجددة فالله تعالى قادر على أن يخلق من أسباب العقم غير ما عرف علاجه، فهو القادر على كل شيء، فلو فرض أن هؤلاء الباحثين وصلوا إلى ما ادعوه فستبقى أمامه حالات يقفون أمامها عاجزين.
ولمزيد الفائدة طالع ما ورد في الرابط الآتي:
http://bayanelislam.net/Suspicion.aspx?id=04-03-0002
وحاصل ذلك كله:
أن هذا السؤال إنما يكون وجيها، ويكون الاستشكال في محله في صورة واحدة : أن يكتشف دواء ناجع لداء العقم، بحيث يعلمه كل عقيم على وجه الأرض، ويتناوله فعلا، ويزول عقمه بذلك، ويولد له؛ فلا يبقى على ظهر الأرض: عقيم!!
ودون ذلك كله: خرط القتاد ...
فدع الأوهام أيها السائل الكريم، ودع أرأيت عند الكوكب؛ كما قال ابن عمر رضي الله عنهما .
والله أعلم.