بدا لي غريبًا جدًا أنّ النبي قال: إن الروح القدس مع حسّان بن ثابت رضي الله عنه، بالنسبة لي هذا شيء نصرانيّ جدّا لأقوله، لكن لا أعتقد أن النصارى والمسلمين يفهمون نفس الشيء عندما يسمعون أنّ الروح القدس مع شخص ما، لذا ماذا يعني وجود الروح القدس معنا من وجهة نظرنا الإسلامية؟
الحمد لله.
قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حسان بن ثابت أن ينصر الإسلام بشعره ودعا الله تعالى أن يؤيّده بروح القدس.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: "مَرَّ عُمَرُ فِي المَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ فَقَالَ: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ التَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ ؟ قَالَ: نَعَمْ". رواه البخاري (3212)، ومسلم (2485).
وروح القدس، هو الملك جبريل عليه السلام، كما هو معلوم ومشهور في نصوص الكتاب والسنة، وكما في الرواية الأخرى لهذا الحديث.
عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ رواه البخاري (3213)، ومسلم (2486).
ومعيّة جبريل عليه السلام لحسان رضي الله عنه تكون بنصره وتأييده كما في الرواية السابقة، والأحاديث يفسر بعضها بعضا.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
"كما قال في الرواية الأخرى: (اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ)؛ أي: بالإلهام، والتذكير، والمعونة." انتهى من"المفهم" (6 / 421).
وكما ورد في القرآن ذكر تأييد الله لنبيه عيسى ابن مريم عليه السلام بروح القدس، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ البقرة/87 ونحو ذلك من الآيات ؛ فقد ورد أيضا أن "روح القدس" هو الذي ينزل بالوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ النحل/102.
وأما تأييد "روح القدس"، وهو جبريل عليه السلام، فتشهد له نصوص كثيرة من الوحي، تدل على تأييد الله تعالى لعباده المؤمنين من البشر بعباده من الملائكة.
كما في قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الأنفال/12.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وهذا قول سلف الأمة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، فإنهم يقولون: إن الشياطين توسوس في نفوس بني آدم كالعقائد الفاسدة والأمر باتباع الهوى، وإن الملائكة بالعكس إنما تقذف في القلوب الصدق والعدل، قال ابن مسعود: (إن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك...) " انتهى من "الرد على المنطقيين" (ص 505).
وهذا لا يشبه بأي وجه من الوجوه مسألة روح القدس عند النصارى.
فهم النصارى يعتقدون ألوهيته، ويتوجهون إليه بالعبادة والطلب.
قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى:
"الكنائس كلها تعتقد التثليث، وهذا هو موضع اتفاق. ولكن موضع الخلاف بينها هو العنصر الإلهي في المسيح، أهو الجسد الذي تكون من الروح القدس ومن مريم العذراء الذي باختلاطه بالعنصر الإلهي صار طبيعة واحدة ومشيئة واحدة أم أن الأقنوم الثاني له طبيعتان ومشيئتان؟
ومن هذا كله يفهم أن المسيحيين على اختلافهم يعتقدون أن في اللاهوت ثلاثة يُعبدون، وعباراتهم تفيد بمقتضاها أنهم متغايرون وإن اتحدوا في الجوهر والقدم، والصفات، والتشابه بينهم كامل." انتهى من "محاضرات في النصرانية" (ص 103).
وليس يلزم إذا كان النصارى يطلقون "روح القدس" إطلاقا باطلا، أو يعتقدون فيه اعتقادات باطلة؛ أن يكون استعمال المسلمين ذلك استعمالا لكلمة نصرانية؛ فهذا لا يقوله أحد؛ فإن النصارى عندهم "صلاة" وعندهم "صيام"؛ فهل إذا أطلقنا ذلك على عبادتنا لله، كان ذلك استعمالا لكلمة نصرانية.
إننا نستعمل الكلمة الاستعمال الشرعي الذي ورد به من عند ربنا في كتاب الله، وسنة رسوله، وبالمعنى الصحيح المعروف عندنا، وليس بالمعنى الباطل عند المشركين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"فهذا حسان بن ثابت واحد من المؤمنين، لما نافح عن الله ورسوله وهجا المشركين الذين يكذبون الرسول: أيده الله بروح القدس وهو جبريل عليه السلام، وأهل الأرض يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يجعل اللاهوت متحدا بناسوت حسان بن ثابت؛ فعُلم أن إخباره بأن الله أيده بروح القدس، لا يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت؛ فعلم أن التأييد بروح القدس ليس من خصائص المسيح، وأهل الكتاب يقرون بذلك، وأن غيره من الأنبياء كان مؤيدا بروح القدس، كداود وغيره...
وهذا التأييد بروح القدس لمن ينصر الرسل: عام في كل من نصرهم على من خالفهم من المشركين وأهل الكتاب كما تقدم.
وليس في القرآن ولا في الإنجيل ولا غير ذلك من كتب الأنبياء أن روح القدس الذي أيد به المسيح هو صفة الله القائمة به، وهي حياته، ولا أن روح القدس رب يخلق ويرزق؛ فليس روح القدس هي الله، ولا صفة من صفات الله، بل ليس في شيء من كلام الأنبياء أن صفة الله القائمة به تسمى ابنا ولا روح القدس.
فإذا تأول النصارى قول المسيح: عمِّدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس، على أن الابن صفته التي هي العلم، وروح القدس صفته التي هي الحياة كان هذا كذبا بينا على المسيح، فلا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء تسمية الله ولا شيئا من صفاته، ابنا ولا حياته روح القدس" انتهى من "الجواب الصحيح" (2 / 184 - 186).
فروح القدس في الإسلام هو ملك كريم، لا يُعْبَد ولا يتوجه إليه بطلب النصر، وإنما يتوجه بالدعاء والطلب إلى الله تعالى، كما في الحديث السابق، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان متجها إلى الله تعالى لا إلى روح القدس، حيث قال صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ.
فالحاصل؛ أن جوهر الفرق بين الإسلام والنصرانية في مسألة: "روح القدس" أنه في النصرانية يعتقدون بألوهيته، فيعبدونه.
أما في الإسلام فنعتقد أنه ملك كريم، ليس له أي صفة من صفات الألوهية، بل هو عليه السلام عبد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران/80.
والله أعلم.