لقد قرأت ان في (غزوة بدر) أمر الرسول بصناديد الكفر فسحبوا إلى بئر وألقوا فيها. و قد وجدت شيئا في نفسي من هذا الفعل. لما لم يدفنوا و لم تحترم حرمة اجسادهم؟ الإسلام دين تسامح و بعد موت الكفار زال شرهم. لماذا قام الرسول بمعاملة جثثهم بتلك الطريقة؟
الحمد لله.
أولا:
عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ:
"أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: (يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟...) رواه البخاري (3976)، ومسلم (2875).
وعلى المسلم عندما يبلغه خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتقد أنه وفق العدل الذي بعثه الله تعالى به، فهذا مقتضى شهادة التوحيد، التي تدل على العبودية لله تعالى والطاعة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ومقتضى العبودية لله تعالى هو التسليم لأحكامه، والاعتقاد أنها لا تخرج عن العدل والحكمة.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
"اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك " انتهى. "شرح الطحاوية" (ص 261).
قال الله تعالى:
(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء (23).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته " انتهى. "مجموع الفتاوى" (8 / 79).
ومقتضى طاعة النبي صلى الله عليه وسلم التسليم لأوامره.
قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا الأحزاب/36.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وفي الحديث: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به). ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)، كقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) " انتهى. "تفسير ابن كثير" (6 / 423).
وبهذا ظهر فضل الصحابة رضي الله عنهم، بمسارعتهم للتسليم لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقينا منهم بعدله وحكمته، ومنه هذا الحكم برمي المشركين في القليب، فلم يعترضوا عليه وقد كان هؤلاء الكفار أقاربا لجمع من هؤلاء الصحابة.
ثانيا:
إلقاء النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش في قليب بدر، لا يخرج عن العدل فيهم، وفي أمثالهم. فهؤلاء الأعداء ليس لهم حق على النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه دفنهم، ومع ظلمهم له صلى الله عليه وسلم وتعذيبهم لأصحابه رضوان الله عليهم لم يتركهم في العراء، بل ألقاهم في البئر سترا لهم، وتطهيرا للجو من تعفن جثثهم، وليس لهم حق عليه أكثر من هذا، ولا لهم دين صحيح يتشرعون به؛ فبأي وجه يستحقون الدفن على ما جاءت به الشريعة، وهم لا يؤمنون بها، ولا لهم دين صحيح، ولا هم أهل سلم، ولا ذمة؟!
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
"فإن قلت: فما معنى إلقائهم في القليب؟
قلت: لأن من سنته في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه ولا يسأل عنه، كما أخرجه الدارقطني، فإلقاؤهم من هذا الباب، غير أنه كره أن يشق على أصحابه كثرة الجيف، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم، ووافق أن البئر حفره رجل من بني النار كما سيأتي، فكان مناسبا لهم." انتهى من "التوضيح" (21 / 45).
ثم إنه، صلى الله عليه وسلم، لم ينتقم منهم، كعادة أخلاق أهل الجاهلية بالتمثيل والتقطيع ونحو هذا، بل تركوا جثة أمية بن خلف في مكانها بسبب أنها كانت تتقطع عند رفعها، وغطوها بالتراب، كما جاء في "سيرة ابن هشام" (2 / 291 - 292):
" قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
(لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ، طُرِحُوا فِيهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُحَرِّكُوهُ، فَتَزَايَلَ لَحْمُهُ، فَأَقَرُّوهُ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنْ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ...). " انتهى.
فمن محاسن الإسلام أنه أرشد إلى دفن الكافر رغم عداوته إذا لم يوجد من أهل ملته من يقوم بدفنه.
ومن الأحاديث المرشدة إلى هذا؛ حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:"قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ قَالَ: (اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ) رواه النسائي (2006).
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (21 / 13):
"لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا يجوز للمسلم أن يدفن كافرا ولو قريبا إلا لضرورة، بأن لا يجد من يواريه غيره، فيواريه وجوبا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر بموت أبي طالب قال لعلي رضي الله عنه: (اذهب فواره)، وكذلك قتلى بدر ألقوا في القليب، أو لأنه يتضرر بتركه ويتغير ببقائه." انتهى.
فهذا الخبر نفسه حجة عند أهل العلم على دفن الكفار إذا لم يوجد من أهل ملتهم من يدفنهم، بل استنبط بعض فقهاء الإسلام من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته؛ أن عدم دفنهم نوع من المثلة المنهي عنها.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
"ودفن الكافر الحربي وغيره: فرض.
... عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث).
وقد صح نهيه - عليه السلام - عن المثلة. وترك الإنسان لا يدفن: مثلة... " انتهى من "المحلى" (3 / 338).
والله أعلم.