لماذا كانَ الإمام ابنُ حزم رحمهُ الله تعالى يرفُض روايات الصحابي الجليل أبي الطفيل الكناني رضي الله عنه؟ أليسَ جميع الصحابة عُدول ثِقات؟
الحمد لله.
أولا:
الصحابة كلهم عدول، تقبل روايتهم باتفاق أهل السنة، ولم يخالف في هذا الأصل إلا أهل البدع.
أما أبو الطفيل الكناني المكي عامر بن واثلة، فقد ثبت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
حيث أخرج مسلم في "صحيحه" (2340)، من حديث الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: "أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. قَالَ: نَعَمْ، كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحَ الْوَجْهِ".
ونصَّ على ذلك الإمام أحمد في "العلل" (5641)، فقال: "أَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة اللَّيْثِيّ: قد رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم." انتهى.
وقد اختلف أهل العلم في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في عده من الصحابة أم من كبار التابعين.
فأكثر أهل العلم على ثبوت صحبته، وأنه آخرهم موتا، رضي الله عنه.
قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/16):" وآخرهم وفاة أبو الطفيل عامر بن واثلة، رضى الله عنه، توفى سنة مائة من الهجرة باتفاق العلماء، واتفقوا على أنه آخر الصحابة، رضى الله عنهم، وفاة." انتهى.
وقال ابن حجر في "الإصابة" (10166):" قال ابن السّكن: جاءت عنه روايات ثابتة أنه رأى النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، وأما سماعه منه صلى اللَّه عليه وسلّم فلم يثبت." انتهى.
وقال العلائي في "جامع التحصيل" (327):" عامر بن واثلة أبو الطفيل آخر الصحابة موتا، له رؤية مجردة." انتهى.ـ
وعدَّه ابن عبد البر في "الاستغناء" (740)، والعجلي في "الثقات" (830) من طبقة كبار التابعين.
ثانيا:
وأما عن حال روايته؛ فقد ورد عن إبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، أنهما كرها الرواية عنه، كما في "تاريخ دمشق لابن عساكر" (26/128).
وقد روى الخطيب في "الكفاية" (ص131)، أن أبا عبد الله بن الأخرم الحافظ سُئل: لم ترك البخاري حديث أبى الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: لأنه كان يفرط في التشيع " انتهى.
وقد ردَّ الحافظ مغلطاي هذا القول في "إكمال تهذيب الكمال" (7/153)، فقال: "وفيه نظر، لأن البخاري قد خرج حديثه، على ذلك اتفق جماعة المؤرخين." انتهى.
والبخاري خرّج له حديثا واحدا موقوفا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: "بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا (127)، قال: وَقَالَ عَلِيٌّ:(حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ). حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ " انتهى.
والثابت أن أبا الطفيل كان من شيعة علي رضي الله عنه، وكان يعترف بفضل الشيخين أبي بكر وعمر، ولم يكن التشيع يومئذ على صورته المعهودة من سب الصحابة والتبرؤ منهم والوقيعة فيهم، فضلا عن تكفيرهم.
وقد نصَّ على ذلك ابن سعد في "الطبقات" (2/221)، وابن سعد في "تاريخ دمشق" (26/113)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/799)، والذهبي في "تاريخ الإسلام" (264).
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/799): "وكان محبا لعلي رضي الله عنه، وكان من أصحابه في مشاهده، وكان ثقة مأمونا يعترف بفضل الشيخين، إلا أنه كان يقدم عليا." انتهى.
وثبوت هذا فيه لا يطعن في حديثه، ولذا روى له البخاري في موضع واحد كما قدمنا، وروى له مسلم في عدة مواضع، فهو حجة عند أهل السنن.
ثالثا:
وأما عدم قبول ابن حزم له، فقد ذكر لذلك علتين:
الأولى: كونه صاحب راية المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب.
الثانية: كونه قيل فيه أنه كان يؤمن بالرجعة، أي رجعة علي بن أبي طالب بعد الموت. ينظر: المحلى (2/206).
الأول: أنه قد ذكر ابن حزم في موضعين من كتابه حديثين من طريق أبي الطفيل، محتجا بهما.
الموضع الأول: قال في "المحلى" (6/93) وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ فَخْرًا أَوْ مُبَاهَاةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. الأنعام/145، وَهَذَا مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَا قُتَيْبَةُ، نَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ - عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ).
الثاني: قال في "المحلى" (10/47): "وَقَدْ قُلْنَا: إنْ أَسْقَطَتْ الْحَامِلُ الْمُطَلَّقَةُ، أَوْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؛ أَوْ الْمُعْتَقَةُ الْمُتَخَيِّرَةُ فِرَاقَ زَوْجِهَا: حَلَّتْ.
وَحَدُّ ذَلِكَ: أَنْ تُسْقِطَهُ عَلَقَةً فَصَاعِدًا، وَأَمَّا إنْ أَسْقَطَتْ نُطْفَةً دُونَ الْعَلَقَةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لَا تَنْقَضِي بِذَلِكَ عِدَّةٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ -: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا جَمِيعًا: أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، قَالَا جَمِيعًا: أَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ السَّرْحِ أَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدَ الْغِفَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ (إذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟) وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَعْنَاهُ خَلْقُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَنْقَسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَجِلْدًا وَلَحْمًا وَعِظَامًا - فَصَحَّ أَنَّ أَوَّلَ خَلْقِ الْمَوْلُودِ كَوْنُهُ عَلَقَةً لَا كَوْنُهُ نُطْفَةً، وَهِيَ الْمَاءُ." انتهى.
فهنا احتج ابن حزم بروايته.
وعلى كلٍ؛ فردُّه رواية أبي الطفيل للعلل التي ذكرها: مردود، من وجهين:
الأول: أن ثبوت ذلك عنه فيه نظر، ونحن لم نقف على أحد ذكر ذلك عنه، سوى أبي إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" (ص53)، فقال: "وكان أبو الطفيل عامر بن واثلة رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكان آخر من رآه موتاً، مات بعد سنة مائة، وكان صاحب راية المختار، وكان يرمى بالرجعة." انتهى.
وهذه التهمة تحتاج إلى دليل مسند، ثابت بالقول عنه، وهذا ما لم نقف له على دليل.
ثم لو صحَّ كونه صاحب راية المختار، فإنَّ هذا لا يسقط روايته، فإن المختار في أول أمره أظهر الخروج ليثأر ممن قتل الحسين، وخرج معه جماعات من أهل الديانة، ولا يعلمون ما يبطنه المختار، ولم يكن بعدُ أظهر كذبه وادعاءه للنبوة وغير ذلك من الشنائع، فلا مطعن فيهم لمجرد خروجهم.
قال ابن القيم في "تهذيب السنن" (1/181): "وقد أعل أبو محمد ابن حزم حديث خزيمة هذا بأن قال: رواه عنه أبو عبد الله الجدلي صاحب راية الكافر المختار لا يعتمد على روايته.
وهذا تعليل في غاية الفساد فإن أبا عبد الله الجدلي قد وثقه الأئمة أحمد ويحيى، وصحح الترمذي حديثه، ولا يعلم أحد من أئمة الحديث طعن فيه.
وأما كونه صاحب راية المختار، فإن المختار ابن أبي عبيد الثقفي إنما أظهر الخروج لأخذه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما والانتصار له من قتلته، وقد طعن أبو محمد بن حزم في أبي الطفيل، ورد روايته بكونه كان صاحب راية المختار أيضا، مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة، ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفس المختار وما يُسِره، فرد رواية الصاحب والتابع الثقة بذلك: باطل." انتهى.
وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (3/39): "وَأما الْجَواب عَن قَول ابْن حزم فِي أبي عبد الله الجدلي فَلم يقْدَح فِيهِ أحد من الْمُتَقَدِّمين، وَلَا قَالَ فِيهِ مَا قَالَ ابْن حزم - فِيمَا علمناه - وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَيَحْيَى، وهما هما، وَصحح التِّرْمِذِيّ وَكَذَا ابْن حبَان حَدِيثه. وَمَا اعتل بِهِ من كَونه صَاحب راية الْمُخْتَار الْكَافِر، فقد ذكر مثل ذَلِك فِي أبي الطُّفَيْل، وَقد رَأَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَأجِيب عَنهُ بِأَن الْمُخْتَار أظهر أَولا فِي خُرُوجه الْقيام بثأر الْحُسَيْن فَكَانَ مَعَه من كَانَ، وَمَا كَانَ يَقُوله من غير هَذَا، فَلَعَلَّهُ لم يطلع عَلَيْهِ أَبُو الطُّفَيْل وَلَا علمه، وَهَذَا مطرد فِي الجدلي." انتهى.
وقال ابن حجر في "فتح الباري" (1/412): "أَسَاءَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فضعف أَحَادِيث أبي الطُّفَيْل وَقَالَ كَانَ صَاحب راية الْمُخْتَار الْكذَّاب. وَأَبُو الطُّفَيْل صَحَابِيّ لَا شكّ فِيهِ، وَلَا يُؤثر فِيهِ قَول أحد، وَلَا سِيمَا بالعصبية والهوى، وَلم أر لَهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ سوى مَوضِع وَاحِد فِي الْعلم، رَوَاهُ عَن عَليّ، وَعنهُ مَعْرُوف بن خَرَّبُوذ، وروى لَهُ الْبَاقُونَ." انتهى.
فمما سبق يتبين أن أبا الطفيل عامر بن واثلة هو آخر الصحابة موتا، وروايته محتج بها، وأنَّه كان من شيعة علي رضي الله عنه، وكان يعترف بفضل الشيخين أبي بكر وعمر، وفي ثبوت كونه صاحب راية المختار بن أبي عبيد الثقفي: نظر. وكذلك لم يثبت كونه يرى الرجعة، فلا حجة لابن حزم في ردِّ روايته، بل إن ابن حزم نفسه قد احتج بها في موضعين من كتابه!!
والله أعلم.