الحمد لله.
أولاً:
حكم مسح الأذنين.
اختلف العلماء في حكم مسح الأذنين، على قولين :
القول الأول: أن مسح الأذنين سنة، فمن تركه فوضوؤه صحيح، وهو مذهب الجمهور، ورواية عن أحمد .
واستدلوا بما رواه البخاري (185) من طريق عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه: " أن رجلا قال لعبد الله بن زيد ، وهو جد عمرو بن يحيى : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟
فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بماء ، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (235).
ووجه الاستدلال : أن هذا الوضوء وقع جوابًا لسؤال : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فذكر صفة الوضوء من المضمضة والاستنشاق ، وذكر مسح الرأس ثم انتقل إلى غسل الرجلين ، ولم يذكر الأذنين ، ولو أن الراوي قال : ومسح برأسه لقيل : ربما أنه أجمل ، فلما ذكر صفة مسح الرأس بداية ونهاية ، ولم يتعرض للأذنين علم أنه لم يمسحهما ، وتركه لهما وهو في معرض بيانه لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - : دليل على أن مسحهما ليس بواجب.
وجاء نحو ذلك أيضًا في حديث حمران مولى عثمان ، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء ، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار ، فغسلهما ، ثم أدخل يمينه في الإناء ، فمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه البخاري (159)، ومسلم (236).
وينظر: "بدائع الصنائع" (1/ 23) ، و"المدونة" (1/ 123)، و"الفروع" (1/ 149، 150) ، و"المحلى" (مسألة: 199).
القول الثاني : يجب مسح الأذنين ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة ، وقول إسحاق ، واختاره بعض المالكية .
واستدلوا بقوله تعالى: ( وامْسَحُوا بِرُءوسِكُم ) ، وبحديث : ( الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ) أخرجه أبو داود (134)، والترمذي (37)، وابن ماجه (444). قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك القائم.
قالوا : فإذا كانت الأذنان من الرأس، فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما ، فيثبت وجوبه بالنص القرآني .
وأجاب الجمهور عن هذا الاستدلال بأن الحديث فيه مقال ، كما سبق في كلام الترمذي ، وعلى فرض صحته ، فإنه إنما يدل على أن الأذنين من الرأس ، أي تمسحان مع الرأس ، ولا يدل على وجوب مسحهما.
والدليل على ذلك : أن من وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة لم يتفقوا على ذكر مسح الأذنين ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أحيانًا ، ويتركه أحيانا ، فلا يكون واجبا .
ينظر : "الإنصاف" (1/ 162 ، 163) ، و"كشاف القناع" (1/ 100) ، و"الأوسط" (1/ 405) ، و"المنتقى شرح الموطأ" (1/ 75).
قال ابن قدامة : " وَالظَّاهِرُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا ، وَإِنْ وَجَبَ الِاسْتِيعَابُ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْرُ"،
وقال : " قَالَ الْخَلَّالُ : كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ تَرَكَ مَسْحَهُمَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ لِلرَّأْسِ ، لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الرَّأْسِ دُخُولُهُمَا فِيهِ ، وَلَا يُشْبِهَانِ بَقِيَّةَ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ مَسْحُهُمَا عَنْ مَسْحِهِ عِنْدَ مَنْ اجْتَزَأَ بِمَسْحِ بَعْضِهِ ".انتهى من المغني (1/ 93)
والراجح هو القول الأول ، وهو أن مسح الأذنين سنة وليس واجبًا، فمن توضأ ولم يمسح أذنيه فوضوؤه صحيح.
قال القرطبي: " وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق ".
انتهى من "الجامع لأحكام القرآن" (6/ 90).
ثانيًا :
اختلف العلماء في ماء الأذنين :
فقيل : السنة أن تمسح الأذنان بماء الرأس ، وهو مذهب الحنفية، وهو ما دلت عليه السنة .
وقيل : بل يستحب أخذ ماء جديد لهما ، وهو مذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
ولو مسحهما بماء الرأس أجزأ عندهم ، لكن الخلاف في تحصيل السنة.
قال ابن المنذر : " وغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وُضُوءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذُهُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا ". انتهى من "الأوسط" (1/404).
وقال ابن القيم : " وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ ، وَكَانَ يَمْسَحُ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا ، وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ". انتهى من "زاد المعاد في هدي خير العباد" (1/ 187)
قال المباركفوري : " لَمْ أَقِفْ عَلَى حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ صَحِيحٍ خَالٍ عَنِ الكلام يدل على مسح الأذنين بماء جديد ، نعم ثبت ذلك عن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْ فِعْلِهِ ". انتهى من "تحفة الأحوذي" (1/122)
قال الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله بعد أن ذكر قول الفقهاء الذين قالوا : يستحب أن يأخذ للأذنين ماء جديدًا ، قال : "لكن هذا القول ضعيف .
نعم ؛ لو فرض أن اليد يبست نهائيًا، ولم يكن فيها بلل إطلاقًا؛ فحينئذ يحتاج إلى أن يبل بماء جديد ، وهذا يتصور فيما إذا كانت الريح شديدة، وكان الشعر كثيفًا، وإلا فإن الغالب أنه يبقى بلل" انتهى من "شرح بلوغ المرام" (1/190) .
وينظر : "بدائع الصنائع" (1/ 5)، و"حاشية ابن عابدين" (1/ 21)، و"التمهيد" (3/ 209)، و"مواهب الجليل" (1/ 112)، و"روضة الطالبين" (1/ 4)، و"المغني" (1/ 4).
وبهذا يتبين أن صلاتك السابقة صحيحة إن شاء الله تعالى ، لأنك إن أخذت ماء جديدا للأذنين فقد أحسنت ، وإن تركت مسحهما بالكلية ، فإن مسحهما سنة من سنن الوضوء عند جمهور الفقهاء، فلا يبطل تركه الوضوء .
والله أعلم.