سمعت بعض الشيوخ يتحدثون عن العقاب الإلهي يوم القيامة لمرتكبي المعاصي، وسمعتهم يسردون أحاديث حول كون بعض الذنوب تمحي عبادة سبعين أو مائة سنة، فكيف يسلم المسلم من هكذا عقاب علما أنه حتى ولو عاش مائة سنة فإن عبادته لن تساوي ذلك القدر؟ كيف تحل المغفرة الإلهية في هكذا موضع؟
الحمد لله.
أولًا :
لأهل السنة والجماعة منهجٌ في فهم نصوص الوعد والوعيد، وهو أنَّ نصوص الوعد فضل من الله، وأنَّ الله لا يخلف وعده ، وأنَّ نصوص الوعيد تجعل العاصي تحت المشيئة إن شاء الله عذَّبه وإن شاء عفا عنه.
"فالوعد يكون بالمغفرة والرضوان، والتكريم ودخول الجنان ونحو ذلك من أنواع الثواب.
والوعيد يكون إما بلعنة أو غضب أو دخول نار ... وغير ذلك من أنواع العقاب.
قال الله تعالى: (وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ) التوبة/68.
وقال سبحانه: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) التوبة/72.
وقال تبارك وتعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) التوبة/111.
وقال سبحانه: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ق/45.
ومما أنعم الله تعالى به على عباده، أنه سبحانه قد أخبر أن من وعده على عملٍ صالحٍ فهو منجز له، فلا يخلف الله وعده تكرماً وتفضلاً، قال الله تعالى: (لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الروم/6.
وقال سبحانه وتعالى: (وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) الأحقاف/16.
وأما الوعيد في حقّ عصاة المؤمنين فهو تحت مشيئة الله تعالى، فقد يقع هذا الوعيد جزاءً وعدلاً، وقد يختلف هذا الوعيد في حقّ بعض العصاة لانتفاء شرط أو وجود مانع"، انتهى .
"الموسوعة العقدية" - الدرر السنية (7/2)، بترقيم الشاملة آليا.
يقول ابن أبي زمنين: " وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ : أَنَّ اَلْوَعْدَ فَضْلُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَنِعْمَتُهُ، وَالْوَعِيدَ عَدْلُهُ وَعُقُوبَتُهُ، وَأَنَّهُ جَعَلَ اَلْجَنَّةَ دَارَ اَلْمُطِيعِينَ بِلَا اِسْتِثْنَاءٍ، وَجَهَنَّمَ دَارَ اَلْكَافِرِينَ بِلَا اِسْتِثْنَاءٍ، وَأَرْجَى لِمَشِيئَتِهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْعَاصِينَ مَنْ شَاءَ؛ وَاَللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ فِعْلِهِ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ، فِيمَا وَعَدَ بِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْمُطِيعِينَ: (وَمَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ).
وَقَالَ فِي اَلْعُصَاةِ وَالْكَافِرِينَ: (وَمَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)، وَقَالَ: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا اَلْعَذَابَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)، وَقَالَ: (وَمَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا * وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلًا).
وَقَالَ فِي المُرجَيْن لِمَشِيئَتِهِ مِنْ اَلْمُؤْمِنِينَ: (إِنَّ اَللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وَقَالَ: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ).
فَوَعْدُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ اَلْمُطِيعِينَ صِدْقٌ، وَوَعِيدُهُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَقٌّ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ اَلْمُؤْمِنِينَ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبِهِ فَهُوَ فِي مَشِيئَتِهِ وَخِيَارِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَوَّرَ عَلَى اَللَّهِ فِي عِلْم غيبه .. فَيَقُول: أَبَى رَبُّكَ أَنْ يَغْفِرَ لِلْمُصِرِّينَ، كَمَا أَبَى أَنْ يُعَذِّبَ اَلتَّائِبِينَ؛ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
"أصول السنة" لابن أبي زمنين (ص/256-257).
ثانيًا :
من أصول أهل السنة والجماعة : أن الحسنات لا تحبط حبوطا عاما بذنب دون الشرك، فهو الذي يبطل ما عمل العبد من حسنة، إذا مات عليه . قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة/5 ، وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ المائدة/72.
وأما ما سوى الشرك من السيئات: فإنه، وإن كان لا يحبط الحسنات عامة، كما يقوله أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، إلا أنه قد يحبط من الحسنات ما يحبطه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "
" المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم، وإن خالفوهم في الاسم ؛ فقالوا: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، ولا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها .
وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الله ثم يثيبه؛ ولهذا يقولون: بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة.
وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة : فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار ، ويشفع فيهم ، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات؛ ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة ، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر ، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة .
فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله : أثابه الله على ذلك ، وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته. وكتاب الله عز وجل يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضا ، وبين حكم الكفار في " الأسماء والأحكام ". والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الصحابة يدل على ذلك ، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع." انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/321-322).
وينظر للفائدة: جواب سؤال: (هل تحبط الكبائر الأعمال الصالحة؟).
ثالثا:
لم نقف على حديث صحيح، من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، في حق معصية معينة أنها تحبط عمل كذا وكذا من السنين، لا ستين، ولا سبعين، ولا أكثر، ولا أقل. وإن كانت قد وردت في ذلك بعض آثار عن السلف الصالح، إلا أن ذلك لم يثبت من كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم.
قال ابن رجب رحمه الله : " والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة : كثيرة جدا يطول استقصاؤها ؛ حتى قال حذيفة: قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة .
وعن عطاء قال : إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة، يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة . وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد عنه : ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله.
وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة ، فقد أبطل فيما قال ولم يقف على أقوال السلف الصالح في ذلك . نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار . وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك ." شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري" (206-210) باختصار.
وينظر جواب السؤال رقم: (السيئات قد تُحبِطُ الحسنات).
ثالثًا:
من الأصول العظيمة المقررة: أن الله سبحانه وبحمده: رحمته تسبق غضبه ، وحلمه يسبق عقوبته ، كما قال سبحانه : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام/54.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي رواه البخاري(7404)، ومسلم (2751).
فالواجب على العبد أن يحذر من كل ما يحبط العمل، أو يبطل السيئات؛ وإذا وقع في معصية ، فعليه أن يبادر بالتوبة منها، ولا يسوف، ولا يؤخر، ولا يغرر بحسناته وأعماله الصالحة، خشية أن تبطل عليه بسوء ما عمل.
قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ آل عمران/133-136
ومع وجوب التوبة والاستغفار، والمسارعة إلى رب العالمين، والفرار إليه ، والعودة إليه؛ فعلى العاقل الناصح لنفسه: أن يستكثر من فعل الحسنات. قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ هود/112-115.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ: خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ، مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ: خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ، مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ: خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ، مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ رواه مسلم (244).
وينظر جواب السؤال رقم:(163383)، ورقم:(13693).
والله أعلم.