يقول البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن أبي بكر ابن خزيمة بعد أن أورد جزءًا من قصة حدثت معه:(قلت : القصة فيه طويلة، وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال والله أعلم) والبيهقي أشعري كما هو معلوم فإذا ذكر طريقة السلف كان يقصد بذلك طريقة الأشاعرة, فهل يعني ذلك أن ابن خزيمة صار أشعريا أم أنه رجع عن مسألة معينة فقط؟
الحمد لله.
أولا:
القارئ في تاريخ الفكر الكلامي، وتراث أئمة الأشاعرة، يجد أن طائفة منهم يحكون مقالة السلف، ومذهب السلف، وربما ميزوا بين ذلك وبين مذهبهم الأشعري، وتارة يوافقون السلف وتارة يخالفونهم، فليس الأمر كما ظننت أنهم يقصدون بطريقة السلف طريقة الأشاعرة.
قال الرازي في بيان مذاهب الناس في "الإيمان": "وفي الشرع عبارة عن تصديق الرسول بكل ما علم بالضرورة مجيئه به، خلافاً للمعتزلةِ فإنهم جعلوه اسما للطاعات، والسلفِ فإنهم قالوا: إنه اسم للتصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان.
لنا: أن هذه الطاعات لو كانت جزءا ..." انتهى من "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" ص567
فميز بين مقالة السلف ومقالة الأشاعرة، وخالف السلف.
وقال تقي الدين السبكي: "ومذهب الأشعري وأكثر أصحابه أن الإيمان هو التصديق، واختلف جوابه في معنى التصديق: هل هو المعرفة، أو هو قول النفس على تحقيق، ومن ضرورته المعرفة؛ وهو الذي ارتضاه القاضي ابن الباقلاني؟
ومذهب السلف: أن الإيمان معرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وأنه يزيد وينقص، وأنه لا ينتفي بانتفاء الأعمال، ومذهب السلف في هذا هو الحق، ولتقريره مكان غير هذا" السيف المسلول على من سب الرسول، ص412
فميز بين المذهبين، ورجح مذهب السلف.
وهذا يقع للأشاعرة في مسائل من الصفات، والإيمان، وغيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " يوضح ذلك: أن كثيرا من أصحاب أبي محمد [يعني: العز ابن عبد السلام]، من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث، يقولون: " مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ وأما المتكلمون من أصحابنا: فمذهبهم كيت وكيت ". وكذلك يقولون: " مذهب السلف: أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لا تُتأول. والمتكلمون يرون تأويلها؛ إما وجوبا وإما جوازا "، ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين. هذا منطوق ألسنتهم، ومسطور كتبهم. أفلا عاقل يعتبر؟ ومغرور يزدجر؛ أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يُحدث مقالة تخرج عنهم!!
أليس هذا صريحا أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون؟!
وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح، والدين المتين" انتهى من "الانتصار لأهل الحديث" (220-212)، وهو أيضا في: "مجموع الفتاوى" (4/ 156).
ثانيا:
ما ذكره البيهقي رحمه الله عن رجوع ابن خزيمة إلى طريقة السلف، لعل مراده به: ترك الخوض في مسائل علم الكلام، وعدم الاشتغال بها.
قال البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 23): "وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد الزاهد البوشنجي يقول: دخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي بالري فأخبرته بما جرى بنيسابور بين أبي بكر بن خزيمة وبين أصحابه، فقال: ما لأبي بكر والكلام؟ إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلم فيما لم نتعلمه.
فخرجت من عنده حتى دخلت على أبي العباس القلانسي فقال: كان بعض القدرية من المتكلمين وقع إلى محمد بن إسحاق فوقع لكلامه عنده قبول. ثم خرجت إلى بغداد فلم أدع بها فقيها ولا متكلما إلا عرضت عليه تلك المسائل، فما منهم أحد إلا وهو يتابع أبا العباس القلانسي على مقالته، ويغتم لأبي بكر محمد بن إسحاق فيما أظهره.
قلت: القصة فيه طويلة، وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال، والله أعلم" انتهى.
فقول عبد الرحمن بن أبي حاتم: " ما لأبي بكر والكلام؟" يفيد أنه نقل إليه خوض ابن خزيمة في شيء من مسائل الكلام.
وذكر البيهقي حكاية قد يفهم من هذا وفيها قول ابن خزيمة "لمنصور الصيدلاني: تعال. فعدا إليه منصور، فلما وقف بين يديه قال له: ما صنعتك؟ قال: أنا عطار. قال: تحسن صنعة الأساكفة؟ قال: لا. قال: تحسن صنعة النجارين؟ قال: لا. فقال لنا: إذا كان العطار لا يحسن غير ما هو فيه، فما تنكرون على فقيه راوي حديث أنه لا يحسن الكلام. وقد قال لي مؤدبي ـ يعني المزني رحمه الله ـ غير مرة: كان الشافعي رضي الله عنه ينهانا عن الكلام" الأسماء والصفات (2/ 21).
وأيا ما كان من مراد الإمام البيهقي بتلك المقولة، وبمراده من رجوع ابن خزيمة، إمام الأئمة؛ فإنه لم ينقل شيئا معينا رجع عنه ابن خزيمة من مقالاته، رواه عنه بإسناد تقوم به الحجة، إنما غاية ما هنالك بلاغات، ونقول مرسلة، في كائنة ثبت الكذب فيها على الإمام، بل وعلى مخالفيه أيضا من الأئمة الذين تأثروا بكلام الكلابية.
مع ما تقرر من أشعرية الإمام البيهقي، رحمه الله، وميله في هذه الكائنة، تحديدا، إلى مقالات خصوم ابن خزيمة، وانحيازه إلى الطرف المقابل له. فإذا كان هو يجل ابن خزيمة في نفس الأمر، فمن المفهوم أن يعتذر له، ولو كان أمر رجوعه مبينا على "بلاغات لم تثبت"، وحكايا لا تقوم بمثلها الحجة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، عن انقسام الناس حول تلك الخصومة بين ابن خزيمة وتلامذته:
"وصار الناس حزبين: فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه، ومن وافق طريقة ابن كلاب معه [=يعني: مع مسلك ابن كلاب، ومسلكه]؛ حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين؛ فالحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو عثمان النيسابوري [= شيخ الإسلام الصابوني] وغيرهم معه، وكذلك يحيى بن عمار السجستاني وأبو عبد الله بن منده وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه. وأما أبو ذر الهروي وأبو بكر البيهقي وطائفة أخرى: فهم مع ابن كلاب" . انتهى، من درء التعارض (2/9-10).
وإذا كانت القصة دخلها الكذب في حياته، ولم ينقل في شيء من رواياتها رجوعه عن شيء معين من المسائل، ولا الألفاظ، فلا وجه لأن يقال: ان ابن خزيمة قد رجع عن شيء من معتقده، بل هذا لم يدعه البيهقي نفسه!
والرجوع عن باطل من إمام كبير كابن خزيمة لا يقف عند إشارة، بل مثله جدير بأن يصرح بالمسألة وردها.
وقد مضى بعض الجهلة بعيدا فقالوا: إن ابن خزيمة رجع عن كتاب التوحيد! وهذه عماية وجهالة يغني سماعها عن ردها.
ومنهم من قال: إنه رجع عن التجسيم، وهذا اتهام باطل لإمام عظيم من أئمة أهل السنة، بل هو إمام مثبت محقق.
وإذا سلمنا ان ابن خزيمة رجع عن شيء من "الكلام" قد قاله، فليس في كتابه "التوحيد" شيء من الكلام، بل هو إثبات للصفات على ما ورد في الكتاب والسنة، وقد مضى النقل عنه في اعتداده بما صنفه في التوحيد والقدر.
والحاصل هنا أمران مهمان:
الأول: أنه إذا قدر ثبوت أن الإمام ابن خزيمة قد اشتغل بشيء من الكلام، ثم رجع عنه، فليس ما قرره في كتابه العظيم " التوحيد" من هذا الجنس الذي يقال إنه قد رجع عنه، بل إن الإمام قد صنف ذلك ردا على ما انتشر من البدع؛ وإلا، فلم يكن هو راغبا في الاشتغال بشيء من ذلك، حتى رأى أنه قد تعين عليه، تقريرا للسنة، وردا للبدعة، كما سيأتي نقله.
الثاني: أن الإمام ابن خزيمة، رحمه الله، قد حدث بين طائفة من تلامذته خلاف وشقاق، بل وتهاجر بسبب تأثرهم بكلام الأشاعرة، ومذهب الكلابية، حتى مات وهو على ذلك الموقف منهم، حتى لقد استتيب بعضهم على قبره!!
يقول صاحب كتاب "الاتجاه السلفي عند الشافعية":
" ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نفهم موقف الإمام ابن خزيمة، من بعض أصحابه الذين اشتغلوا بـ(الكلام الأشعري).
يقول أبو عاصم العبادي (ت:458هـ)، في ترجمة الفقيه الشافعي، أبي بكر أحمد بن إسحاق الصِّبغي (ت:342هـ):
"وكان هو والثّقَفي [= أبو علي (ت:328هـ]، يقرآن على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقرآ الكلام على الأشعري؛ فحرّم عليهما الرواية عنه!!
وسألوه: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟
قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه.
ويشير ابن خزيمة بنفسه إلى طرف من هذا الخلاف، مع بعض أصحابه، وهو يعني به هنا : الإمام الصِّبْغي، وتأثره بمذهب الأشعرية في التأويل، إلا أنه يؤرخه بتعبير مهم، يعكس نظرة ابن خزيمة للكلام الأشعري، وما فيه من الأخلاط، والتأثيرات (الجهمية)، ويؤرخ لهجران (أهل الآثار له)، بسبب ذلك:
"وزعم من كان يضاهي بعضُ مذهبه، مذهب الجهمية، في بعض عمره، لما لم يقبله أهل الآثار، فترك أصل مذهبه عصبية= زعم أن خبر ابنِ مسعود الذي ذكرناه، إنما ذكر اليهودي أن الله يُمسك السماوات على إصبع، الحديث بتمامه، وأنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجبا وتصديقا له، فقال: إنما هذا من قول ابنِ مسعود، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحك تعجبا، لا تصديقا لليهودي.
وقد كثر تعجبي من إنكاره، ودفعه هذا الخبر، وكان يثبت الأخبار في ذكر الأصبعين، قد احتج في غير كتاب من كتبه بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع رب العالمين)، فإذا كان هذا عنده ثابتا يحتج به، فقد أقر وشهد أن لله أصابع؛ لأن مفهوما في اللغة: إذا قيل: ( إصبعين من الأصابع ): أن الأصابع أكثر من إصبعين؛ فكيف ينفي الأصابع مرة، ويثبتها أخرى؟ فهذا تخليط في المذهب، والله المستعان.
وقد حكيت مرارا، عن بعض من كان يطيل مجالسته: أنه قد انتقل في التوحيد منذ قدم نيسابور ثلاث مرات، وقد وصفت أقاويله التي انتقل من قول إلى قول، وقد رأيت في بعض كتبه: يحتج بخبر ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويخبر خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت ربي في أحسن صورة ) !! فيحتج مرة بمثل هذه الأسانيد الضعاف الواهية، التي لا تثبت عند أحد له معرفة بصناعة الحديث، ثم عمد إلى أخبار ثابتة صحيحة من جهة النقل، مما هو أقل شناعة عند الجهمية المعطلة من قوله: ( رأيت ربي في أحسن صورة )، فيقول: هذا كفر بإسناد!! ويشنع على علماء الحديث بروايتهم تلك الأخبار الثابتة الصحيحة، والقولِ بها؛ قلةَ رغبةٍ، وجهل بالعلم، وعناد. والله المستعان. وإن كان قد رجع عن قوله؛ فالله يرحمنا وإياه " انتهى، من "الاتجاه السلفي عند الشافعية"، طه محمد نجا (82-83).
ويقول أيضا:
" غير أن الاشتباك الأهم، فيما بلغنا من سيرة الإمام ابن خزيمة، بالواقع الكلامي، ومشكلاته: كان مع التأثيرات الكلابية (الأشعرية)، التي طالت بعض تلامذته، فاشتد الإمام عليهم، وهجرهم لأجل ذلك، وانتشر أمر القصة انتشارا عظيما، وعظم الخطب فيها .
هجر الإمام ابن خزيمة تلامذته، لأجل ميلهم إلى الكلابية (الأشعرية)، وفي كتبه المصنفة، المخالفة لمسلك الأشاعرة أعظمَ خلاف، ما لا يحتاج إلى بيان، وتدليل. وتمتد أصداء تلك الأزمة، إلى ما بعد وفاة الإمام، رحمه الله، حتى يقول شيخ الإسلام الصابوني (ت:449هـ): "استتيب الصبغي والثقفي على قبر ابن خزيمة"، ويقول بنفسه في كتابه، عن تلميذه الذي هجره: "وإن كان قد رجع عن قوله؛ فالله يرحمنا وإياه" .
ويحيل الناس على (كتبه)، ويكذب من أشاع عنه، غير ما فيها: " من نظر في كتبي المصنفة في العلم، ظهر له وبان: أن الكلابية، لعنهم الله: كذبه فيما يحكون عني، مما هو خلاف أصلي وديانتي؛ قد عرف أهل الشرق والغرب، أنه لم يصنف أحدٌ في التوحيد، وفي أصول العلم، مثل تصنيفي؛ فالحاكي عني خلاف ما في كتبي المصنفة، التي حُملت إلى الآفاق شرقاً وغرباً: كذبه، فسقة" !!
لا جرم؛ قد بقي الناس فريقين، في شأن تراث ابن خزيمة، ومقالاته، بحسب ما رأينا في ذلك الخلاف، وانقسام الناس حوله . فابن خزيمة يقول:
"من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه، قد استوى فوق سبع سماواته: فهو كافر بربه؛ يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل، حيث لا يتأذى المسلمون، والمعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئا، لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال صلى الله عليه وسلم.
يحتفي بتلك المقالة: الحاكم النيسابوري (ت:405هـ)، فيرويها "من دقيق كلامه، الذي يستدل به على كثير من علومه"، ويرويها عن الحاكم: تلميذه شيخ الإسلام الصابوني (ت:449هـ)، ويمضي بعد ذلك، في بيان عظيم قدر ابن خزيمة، ومقامه في العلم والدين، فيذكر، في أئمة السنة في "أئمة أهل الحديث الذين بهم يقتدون، وبهديهم يهتدون، ومن جملتهم وشيعتهم، أنفسهم يعدون، وفي اتباعهم آثارهم يجدون ..."، فذكر جماعة، إلى أن قال: "ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، الذي كان يدعى إمام الأئمة؛ ولعمري: كان إمام الأئمة في وقته، وعصره".
بينما ينقل ابن جهبل الحلبي الأشعري (ت:733هـ) ذلك القول نفسه، ويعلق عليه بقوله: "ابن خزيمة: قد علم الخاص والعام حديثه في العقائد، والكتاب الذي صنفه في التشبيه وسماه بالتوحيد، ورد الأئمة عليه أكثر من أن يذكر؛ وقولهم فيه ما قاله هو في غيره: معروف".
ثم؛ لا ينقضي العجب من قوم، يُشيعون عن الإمام، ويزعمون: قد رجع، قد عاد ؛ فبِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا!!" انتهى، من "الاتجاه السلفي عند الشافعية" (186-188).
وينظر تفصيل ما جرى بين ابن خزيمة وتلامذته: "مجموع الفتاوى" (6/169) وما بعدها، "درء التعارض" (2/76) وما بعدهاـ، "سير أعلام النبلاء" (14/377).
والله أعلم.