الحمد لله.
أولًا :
قال تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ التوبة/65 - 66.
للعلماء في الآية قولان :
1- أن المراد بالطائفة في قوله تعالى : (إن نعف عن طائفة منكم)، رجلٌ ، وهو : مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي ، والسبب في عفو الله عنه أنه أنكر كلامهم ورفضه .
قال ابن إسحاق : "كان الذي عفي عنه، فيما بلغني: مخشي بن حمير الأشجعي، حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع" انتهى من"جامع البيان"(11/ 546) .
عن معمر، قال: " قال بعضهم: كان رجل منهم لم يُمالئهم في الحديث، فيسير مجانبا لهم، فنزلت: إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة [التوبة: 66] فسمي طائفةً، وهو واحد ".
انتهى من "جامع البيان"(11/ 547) .
2- أن المراد بالطائفة في قوله تعالى : (إن نعف عن طائفة منكم) ، جماعة ، والمعنى عندهم : " إن تتب طائفة منكم فيعفو الله عنهم، يعذب الله طائفة منكم بترك التوبة".
"جامع البيان"(11/ 547) .
ثانيًا :
أما قصتهم فهي : " كان رهط من المنافقين منهم: وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع يقال له : مَخْشي بن حميِّر ، قال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا؟ والله لكأنا بكم غدا مُقَرَّنِين في الحِبال ، إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين ، فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضى، على أن يُضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه .
في هذه الفترة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمار بن ياسر -رضي الله عنه-: "أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا".
فانطلق إليهم عمار -رضي الله عنه- فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت: يا رسول الله! إنا كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله تعالى: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)).
"اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون"(4/ 291) .
وأمَّا قائل المقالة ، فهو كما قال ابن إسحاق : كان الذي قال هذه المقالة، فيما بلغني: وديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد من بني عمرو بن عوف .
عن زيد بن أسلم: أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقرائنا هؤلاء: أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء؟! فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فقال زيد: قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، يقول: إنما كنا نخوض ونلعب [التوبة: 65] فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: « أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ما يزيده» .
"تفسير الطبري"(11/ 542) .
وقد رد عليه تلك المقالة مخشي بن حميِّر ، فعن عكرمة، في قوله: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب [التوبة: 65] إلى قوله: بأنهم كانوا مجرمين [التوبة: 66] قال: فكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه، يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أُعنى بها، تقشعر منها الجلود، وتجل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وُجِد، غيرُه " .
"تفسير الطبري"(11/ 544) .
وروى ابن أبي حاتم : (6/ 1831) عن كعب بن مالك قال: "قال مخشي بن حمير: لوددت أني أقاضى على أن يُضرب كل رجل منكم مائةً مائةً، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن هم أنكروا وكتموا، فقل: بلى، قد قلتم كذا وكذا، فأدركهم فقال لهم: الذي أمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاءوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون، وقال مخشي بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي فأنزل- الله تعالى- فيهم لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فكان الذي عفا الله عنه: مخشي بن حمير، فتسمى: عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل يوم اليمامة لا يعلم مقتله ولا من قتله ولا يرى له أثر ولا عين".
ثالثًا :
أمَّا مخشي ، فهو : مَخْشي بن حمير الأشجعي، قال ابن حجر: ذكر في "مغازي ابن إسحاق" في غزوة تبوك، وفي "تفسير الكلبي" بسنده إلى ابن عباس، وبسند آخر إلى ابن مسعود أنه ممن نزل فيه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ، وأنه قال: يا رسول الله غيّر اسمي واسم أبي، فسماه عبد الله بن عبد الرحمن. قال ابن عبد البر: تاب وحسنت توبته.
"الاستيعاب" لابن عبد البر(10/ 54)، "الإصابة" لابن حجر(9/ 149).
رابعًا :
أما عن فوائد هذه الآية ، وتلك القصة ، فقد ذكر بعضها العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي ، فقال في تفسيره : (ص: 342) : « كانت هذه السورة الكريمة تسمى "الفاضحة" لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم، فما زال الله يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن الله سَتِيرٌ يحب الستر على عباده.
والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين، الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف.
قال الله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا}.
وقال هنا {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)؛ أي تخبرهم وتفضحهم، وتبين أسرارهم حتى تكون علانية لعباده، ويكونوا عبرة للمعتبرين .
قُلِ اسْتَهْزِئُوا أي استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية، إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ؛ وقد وفَّى تعالى بوعده، فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم وهتكت أستارهم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم، يقول طائفة منهم في غزوة تبوك "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- أرغب بطونا وأكذب ألسنا وأجبن عند اللقاء" ونحو ذلك .
ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بكلامهم، جاءوا يعتذرون إليه ويقولون إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ؛ أي نتكلم بكلام لا قصد لنا به، ولا قصدنا الطعن والعيب .
قال الله تعالى -مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك- قُلْ لهم أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؛ فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين، لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاءُ بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل، ومناقض له أشد المناقضة .
ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة والرسول لا يزيدهم على قوله أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
وقوله إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم واستغفارهم وندمهم نُعَذِّبْ طَائِفَةً منكم بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَانُوا مُجْرِمِينَ مقيمين على كفرهم ونفاقهم.
وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة، خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه، ويستهزئ به وبآياته ورسوله؛ فإن الله تعالى يظهرها، ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة
وأن من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة عنه، أو سخر بذلك أو تنقصه، أو استهزأ بالرسول أو تنقصه؛ فإنه كافر بالله العظيم، وأن التوبة مقبولة من كل ذنب وإن كان عظيمًا » ، انتهى .
وفي الآيات الكريمات من الفوائد أيضا :
1- أهمية صحبة الأخيار، وترك صحبة الفجار، لأنهم يأخذون الإنسان إلى ما يغضب الله، وقد يكونون وبالًا عليه إن لم ينكر مقالاتهم الباطلة .
2- الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3- أهمية الحمية لدين الله ، وألا يرضى الإنسان بأن ينتقص الدين وهو شاهد .
4- معرفة صفات المنافقين، للابتعاد عنها .
5- معرفة صفات المؤمنين، للتحلي بها .
6- أن يتوب الإنسان من كل ذنب مهما عظم ، لأن الله أجل وأعظم .
7- أن يحرص الإنسان على تطهير سريرته، وتعاهد نفسه بالنصيحة بتعظيم أمر الله وشرعه .
8- إخفاء العمل الصالح من صفات المؤمنين، كما أخفاه الصحابي مخشي بن حمير .
9- فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحميتهم لدينهم ، فإنهم حرصوا أن يبلغوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالة المنافقين ليعاقبوا .
10- الاستهزاء بالدين أو الرسول أو الله سبحانه وتعالى كافرٌ وإن ادعى غير ذلك .
والله أعلم.