قرأ الإمام سورة ص في التراويح، وعندما وصل لموضع سجدة الشكر سجد هو والمصلون، أما أنا ففارقت، وأكملت الصلاة لوحدي، وذلك لأني أعرف أن سجدة الشكر تبطل الصلاة، فأنكر علي الإمام ذلك ،وقال: إنه لا يجوز أن أفارق الإمام حتى وإن أخطأ، وقال: إن سجدة ص يجوز السجود لها في الصلاة حسب المذهبين الحنفي والمالكي، فهل ما يقوله صحيح، أم مفارقتي له هي الصحيحة ؟
الحمد لله.
أولا:
اختلف الفقهاء في سجدة (ص) هل هي سجدة شكر أم تلاوة، على قولين:
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها سجدة شكر، وأنها تفعل خارج الصلاة، فإن سجد لها في الصلاة عالما عامدا بطلت صلاته.
واستظهر بعض الحنابلة عدم البطلان، كما في "المبدع" (2/ 37) لأن سببها من الصلاة.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنها سجدة تلاوة.
فيسجد لها في الصلاة، وهذا ما عليه عمل أئمة المساجد.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "والقول الآخر أنها سجدة من ضمن سجدات القرآن، وعلى هذا مشى الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد)، فإنه عدها من ضمن سجدات القرآن ولم يخصها بشيء من الأحكام، فعلى هذا يسجد بها في الصلاة ولا بأس، وهو الصواب الذي عليه عمل أئمة المساجد" انتهى من "فتاوى محمد بن إبراهيم" (2/ 254).
وقرر الشيخ ابن باز رحمه الله أنها سجدة شكر، ومع ذلك يسجد لها في الصلاة.
قال رحمه الله: " سجدة (ص) سجدة شكر لا شك، لكن من فرق بين الصلاة وخارجها فليس كلامه صحيحًا، بل الصواب: أنها تفعل في الصلاة وخارجها، ومن قال لا تفعل في الصلاة فقد غلط، وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام في (ص) وسجد فيها وهو على المنبر عليه الصلاة والسلام.
فمن قرأها: السنةُ أن يسجد؛ سواء كان في الصلاة - في الفريضة أو التراويح - أو كان في خارج الصلاة، السنة له أن يسجد مطلقًا، حتى في الصلاة.
ومن قال: إنها تبطل الصلاة.. ؛ فهو قول غلط لا وجه له في الشرع مطلقًا" انتهى من "فتاوى الجامع الكبير":
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " وأما سجدة ص: فإنها سجدة شُكْرٍ، ولكن صَحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يسجدُ فيها.
والصَّحيح: أنها سجدة تِلاوة. وعلى هذا؛ فتكون السَّجدات خمسَ عشرة سجدة، وأنه يسجدُ في ص في الصَّلاة وخارج الصَّلاة." انتهى من "الشرح الممتع" (8/98).
وقال أيضا: " القول الصحيح في هذه المسألة: أنَّ السجدةَ في آية (ص) سجدةُ تِلاوة؛ لأنَّ سببَ السُّجودِ لها أنني تلوتُ القرآن، ولم يحصلْ لي نِعمةٌ ولم تندفعْ عَنِّي نِقمةٌ، فإذا كان السببُ هو تِلاوتي لهذه الآية صارت مِن سُجود التِّلاوة، وهذا القولُ هو القولُ الرَّاجح في هذه المسألة." انتهى من"الشرح الممتع" (8/108-109).
ثانيا:
على القول بأن سجدة (ص) سجدة شكر وأن فِعلها في الصلاة عمدا يبطلها، فلو سجد إمام يرى مشروعية السجود لها، هل يتابعه المأموم؟
في ذلك خلاف.
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (4/ 61): " وإن قرأها في الصلاة: ينبغي أن لا يسجد.
فإن خالف وسجد ناسيا أو جاهلا: لم تبطل صلاته، ولكن يسجد للسهو.
وإن سجدها عامدا عالما بالتحريم: بطلت صلاته، على أصح الوجهين. وقد ذكرهما المصنف بدليلهما.
ولو سجد إمامه في ص لكونه يعتقدها، فثلاثة أوجه:
أصحها: لا يتابعه، بل إن شاء نوى مفارقته لأنه معذور، وإن شاء ينتظره قائما، كما لو قام إلى خامسة لا يتابعه، بل إن شاء فارقه وإن شاء انتظره، فإن انتظره لم يسجد للسهو؛ لأن المأموم لا سجود عليه.
(والثاني): لا يتابعه أيضا، وهو مخير في المفارقة والانتظار كما سبق، فإن انتظره سجد للسهو بعد سلام الإمام، لأنه يعتقد أن إمامه زاد في صلاته جاهلا، وأن لسجود السهو توجها عليهما، فإذا أخل به الإمام، سجد المأموم.
(والثالث): يتابعه في سجوده في ص، حكاه الروياني في البحر؛ لتأكد متابعة الإمام، وتأويله. والله أعلم" انتهى.
والصحيح من ذلك الخلاف: أن المأموم يلزمه أن يتابع إمامه، في مثل هذه الأمور المختلف فيها، اختلافا سائغا؛ فإنما جعل الإمام ليؤتم به، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف على الإمام؛ وإي اختلاف أشد من أن يدع إمامه، أو يفارقه؛ وإمامه لم يزد على أن فعل فعلا سائغا لمثله؛ فكيف إذا ثبت السنة به؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
" وبالجملة: فهذه المسائل لها صورتان:
إحداهما: أن لا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم. ....
الصورة الثانية: أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده [أي: عند المأموم] ؛ مثل أن يمس ذكره أو النساء لشهوة ، أو يحتجم أو يفتصد أو يتقيأ، ثم يصلي بلا وضوء؛ فهذه الصورة فيها نزاع مشهور:
فأحد القولين: لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه. كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
والقول الثاني: تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك، وهو القول الآخر في مذهب الشافعي وأحمد؛ بل وأبي حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا.
وهذا هو الصواب؛ لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم ؛ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام لا يتعدى إلى المأموم. ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل فإنه مجتهد أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه، فهو يعتقد صحة صلاته وأنه لا يأثم إذا لم يعدها، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه. وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والمأموم قد فعل ما وجب عليه، كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة.
وقول القائل: إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام: خطأ منه؛ فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأن لا تبطل صلاته لأجل ذلك..." انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/375-377).
وقال أيضا: "وعلم المأموم بحال الإمام، في صورة التأويل، يقتضي أنه يعلم أنه مجتهد مغفور له خطؤه؛ فلا تكون صلاته باطلة. وهذا القول هو الصواب المقطوع به. والله أعلم"انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/380).
وعلى ذلك؛ فما فعله الإمام من السجود في هذا الموضع من سورة (ص): هو فعل سائغ له، لا ينكر عليه.
والصواب أيضا: أن المأموم يتابعه في ذلك، في صلاته، حتى ولو لم يكن المأموم يرى أن ذلك موضع سجود؛ لكن ذلك حينما يصلي لنفسه؛ فأما في الجماعة؛ فإنما جعل الإمام ليؤتم به.
ويتأكد ذلك أيضا؛ إذا كان المأموم عاميا، لا مذهب له، ولم يعمل في ذلك بفتوى عالم يسوغ له تقليده.
أو كان المأموم ممن يلتزم مذهبا يقول بالسجود في هذا الموضع، أو كان هذا هو مذهب علماء بلده، لكنه خالفه جهلا، أو خطأ؛ فهنا ينكر عليه أيضا، أو يعلم، بحسب الحال.
وأما إن كان يلتزم في عبادته وأمر دينه مذهبا لا يقول بالسجود في هذا الموضع، أو عمل ذلك بفتوى عالم يسوغ له تقليده، فإنه معذور فيما فعله في صلاته، وإن كان القول الصحيح هو ما قدمناه في الجواب من لزوم متابعة الإمام في مثل هذه المواضع، وعدم الاختلاف عليه.
والله أعلم.