قرأت جملة في "التمهيد" أشكلت علي في الحديث الخامس لأبي حازم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأةٌ فقالت: يا رسول الله، إني قد هبت نفسي لك... الحديث"، ثم قال:"و في القياس: أنّ كل ما يجوز البدل منه، والعوض جازت هبته"، فما معنى هذه الجملة؟
الحمد لله.
ينص الفقهاء على أنه يشترط في الهبة، أن يكون الشيء الموهوب: شيئا له قيمة مالية، بمعنى : أنه يصح المعاوضة عنه بالمال؛ بأن يباع ويشترى .
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (42 / 128) عن شروط الشيء الموهوب:
" أن يكون الموهوب متقوّما:
المال المتقوم هو ما كان مالا في نظر الشرع له قيمة يُضمن بها عند الإتلاف.
وبناء عليه؛ فلا يجوز هبة ما ليس مالا أصلا، كالميتة ولحم الخنزير والدم، ولا هبة ما ليس متقوما كالخمر والمسكرات ... " انتهى.
وتظهر قيمة الشيء أو قيمة منفعته عند عقود المعاوضة كالبيع والإجارة، أو عند ضمانه بسبب إتلافه بالتفريط أو التعدي، حيث يُقوّم هذا الشيء بثمن أو عوض مقابل له أو بدل عنه.
ولما كان الاستمتاع بالمرأة بعقد النكاح له عوض وهو المهر ، فقد يبدو من هذا أن المرأة لها أن تهب نفسها لمن شاءت؛ غير أن الشرع منع ذلك، وأوجب المهر في النكاح ، وجعل نكاح الهبة خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط .
كما في قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء/24.
قال ابن جزي رحمه الله تعالى:
" الصداق، وهو شرط بإجماع، ولا يجوز التراضي على إسقاطه، ولا اشتراط سقوطه" انتهى. "القوانين الفقهية"(ص135).
وإنما يجوز للزوجة أن تهب المهر لزوجها بعد أن تمتلكه.
قال الله تعالى:(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) النساء/4.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: النحلة: المهر.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: نحلة: فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نحلة: أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماة. وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها.
وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق.
ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته، أو عن شيء منه؛ فليأكله حلالا طيبا؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) " انتهى من"تفسير ابن كثير"(2/ 213).
وهذا هو معنى قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" ... قوله عز وجل: ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) الآية. والموهوبة خُصَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده دون سائر أمته صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ( خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم )، يعني: من الصداق. فلا بد لكل مسلم من صداق قل أو كثر ...
وخُصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموهوبة له: جائزة دون صداق.
وفي القياس: أن كل ما يجوز البدل منه والعوض جازت هبته؛ إلا أن الله عز وجل حرَّم الأبضاع من النساء إلا بالمهور، وهي الصدقات المعلومات. قال الله عز وجل : (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة )...
وأجمع علماء المسلمين أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرجًا وُهِبَ له وطؤه دون رقبته، بغير صداق، وأن الموهوبة لا تحل لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من"التمهيد"(21/110).
والله أعلم.