الحمد لله.
أولًا:
المرض النفسي وتأثيره على عقل الإنسان وسلوكه وأهليّته وتكليفه = أمر نسبي، والمعلومات المذكورة لا تَسْمح باستبيان ذلك، فلا يُعلم إذن مقدار المسؤولية الشرعية والجنائية الواقعة على الأم فيما تعرّض له الطفل من الأذى.
ثانيًا:
على الرغم من ثبوت إيذاء الأم لطفلها، فإن هذا لا يعني ثبوت المسؤولية الشرعية والجنائية عن موته في حقها، بل قد لا يكون لهذا علاقة بذلك أصلًا، والاحتمالات المذكورة في السؤال لا تعدو أن تكون تخرصًا لا يغني شيئًا.
ثالثًا:
كثرة التفكير في ذلك الأمر، أو إخبار العائلة به، أو نحو ذلك: كلها أمور ضررها أكبر من نفعها؛ فليس شيء من ذلك سيرد الميّت، أو يبدّل الماضي، أو يُنزل عليه مزيدًا من رحمات الله ولطفه، بل لن يُورِث ذلك إلا مزيدًا من البؤس والألم وضياع العقل ومرض النفس للأم.
ثم هذا أيضًا لن ينفع الطفل الميّت بشيء، بل ربما أضر بإخوانه الذين لا زالوا فرصة سانحة للأم لكي تصلح معهم ما أفسدته مع أخيهم، ومن أعظم أسباب ذلك الاغتسال من أدران المرض النفسي، لذلك ينبغي للأم متابعة علاجها النفسي، وليس لأحد أن يحجزها عن ذلك أو يمنعها منه.
رابعًا:
لا شيء يحول بين الأم والتوبة، فإنه لا حائل بين التوبة والقاتل المتعمد المترصّد، فكيف بهذه الأم المكلومة المفجوعة؟!
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان فيمن كان قبلكم رجل قَتَلَ تِسْعةً وتِسْعين نفسًا، فسأَل عن أَعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهِبٍ، فأتاه، فقال: إنه قَتَل تِسعةً وتسعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِنْ توْبَةٍ؟ فقال: لا، فقتلَهُ فكمَّلَ بِهِ مائةً.
ثمَّ سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من تَوْبة؟ فقالَ: نعم، ومنْ يحُول بيْنه وبيْنَ التوْبة؟ انْطَلِقْ إِلَى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أُناسًا يعْبدون الله تعالى فاعْبُدِ الله معهم، ولا ترجعْ إِلى أَرْضِكَ؛ فإِنها أرضُ سُوءٍ.
فانطَلَق حتَّى إِذا نَصَف الطَّريقُ، أَتَاهُ الموتُ فاختَصمتْ فيه مَلائكة الرَّحْمة وملائكةُ العَذابِ، فقالتْ ملائكةُ الرَّحْمة: جاء تائِبًا مُقْبلاً بِقلبه إلى اللَّه تعالى، وقالَتْ ملائكة العذاب: إنه لمْ يَعْمل خيرًا قطُّ، فأَتَاهُمْ مَلكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم؛ أَي: حَكمًا، فقال: قيسوا ما بينَ الأَرْضَينِ، فإِلَى أَيَّتِهما كَان أَدْنى فهْو لَهُ، فقاسُوا فوَجَدُوه أَدْنى إِلَى الأرض التي أَرَادَ فَقبَضَتْهُ مَلائكَةُ الرحمة) رواه البخاري (3470)، ومسلم (2766).
فمن يحول بين هذه الأم والتوبة ؟! وإنه ليُرجى أنها بلغت الغاية في تحقيق أسبابها وشروطها، ندمًا وألمًا وحسرة وعزمًا، والحمد لله الذي ربط على قلبها، فلم تجمع على نفسها مصيبتين بالتسخط والجزع، فإن هذا من لطف الله بها سبحانه.
ولا شيء يمنعها من رؤية ابنها إذا تابت وأنابت وخُتم لها بالخير وأدخلت الجنة، بل إن المقتول ليلتقي مع قاتله التائب في الجنة بعد فراغ الحساب، فلا يكدر ذلك صفو نعيم الجنة الحسّي أو المعنوي، قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحجر/47.
وعليها أن تجتهد في الطاعة والخير والاستغفار، ومن أحسن ما تتوب به: أن تجتهد في علاج نفسها واستقامة حالها ورعاية أبنائها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
والله أعلم.