ما هو الفرق بين السيئة والذنب؟ وكيف يكفر الإنسان عنهم؟ وهل الذنوب تمنع قبول الأعمال الصالحة أم ليس لها علاقة؟
الحمد لله.
أولا:
ورد في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وصف المخالفة لأوامر الله تعالى بالذنب وبالسيئة.
كما في قوله تعالى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الزمر/53.
ولا شك أن هذه الآية تتناول جميع المخالفات الشرعية.
وكما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً رواه البخاري(6491)، ومسلم (131).
كما ورد الجمع بينهما ، كما في قوله تعالى:
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ آل عمران/193.
وقد اجتهد أهل العلم في بيان الفرق بينهما، فظهرت عدة آراء.
فهناك من جعل الذنب خاصا بالكبائر، والسيئة بالصغائر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فهاهنا أربعة أمور: ذنوب، وسيئات، ومغفرة، وتكفير.
فالذنوب: المراد بها الكبائر، والمراد بالسيئات: الصغائر، وهي ما تعمل فيه الكفارة، من الخطأ وما جرى مجراه، ولهذا جعل لها التكفير، ومنه أخذت الكفارة، ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصح القولين...
والدليل على أن السيئات هي الصغائر، والتكفير لها: قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .
ولفظ المغفرة أكمل من لفظ التكفير، ولهذا كان مع الكبائر، والتكفير مع الصغائر، فإن لفظ المغفرة يتضمن الوقاية والحفظ، ولفظ التكفير يتضمن الستر والإزالة " انتهى من"مدارج السالكين" (1 /794-795).
وقيل : إن الذنوب هي الخطايا التي بين العبد وربه، والسيئة هي الخطايا التي لها تعلق بحقوق الناس، كالغيبة والسرقة والظلم ونحو هذا.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:
" والغفر والتكفير متقاربان في المادة المشتقين منها، إلا أنه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب، والتكفير في تعويض الذنب بعوض، فكأن العوض: كَفْر الذنب، أي ستره، ومنه سميت كفارة الإفطار في رمضان، وكفارة الحنث في اليمين.
إلا أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصرا على ذواتهم، ولذلك طلبوا مغفرته، وأرادوا من السيئات ما كان فيه حق الناس، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم " انتهى من"التحرير والتنوير"(4 /199-200).
والأمر في التسمية قريب؛ لأن المطلوب أن يجتنب العبد ما نهى الله عنه، سواء سُمِّي ذنبا أو سيئة، ولهذا فسرهما بعض العلماء بمعنى واحد، وإنما يتفاوت استعمالهما بحسب السياق.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد، فإن الغفر والكفر: الستر " انتهى من"تفسير القرطبي" (5/476).
وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى:
" وقيل : هو مجرد تأكيد، وهو حسن " انتهى من"التحرير والتنوير"(4/200).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وعند الإفراد: يدخل كل منهما في الآخر كما تقدم، فقوله تعالى: ( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) يتناول صغائرها وكبائرها، ومحوها ووقاية شرها، بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال، كما قال تعالى ( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ) " انتهى من "مدارج السالكين"(1/795).
ثانيا:
سبيل تكفير الذنوب في هذه الدنيا، يكون بالتوبة النصوح والاستغفار.
كما في قول الله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ الشورى/25.
وكما في قول الله تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ آل عمران/135 – 136.
وكما في قول الله تعالى:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا الفرقان/68–71.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" قد دلت نصوص الكتاب والسنة: على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:
أحدها: التوبة وهذا متفق عليه بين المسلمين...
السبب الثاني: الاستغفار كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ... )، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم )... " انتهى من"مجموع الفتاوى"(7 /487-488).
وكذا تزول الذنوب بالإكثار من الحسنات.
كما ورد في قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ هود/114.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) ، يقول تعالى ذكره: إنّ الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، تذهب آثام معصية الله، وتكفّر الذنوب " انتهى من"تفسير الطبري"(12/611).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) يقول: إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة " انتهى. "تفسير ابن كثير" (4/355).
وكما في حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ رواه الترمذي (1987)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
فبعض الأعمال الصالحة الخالصة قد تكفر الذنوب المتقدمة، كقيام رمضان وليلة القدر إيمانا واحتسابا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ رواه البخاري(2009)، ومسلم(759).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ رواه البخاري (35)، ومسلم(760).
ومن الحسنات ما يكفر ذنوب وقت محدد، كالجمعة والصلوات الخمس.
كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ رواه مسلم (233).
وتزول الذنوب أيضا بالصبر على المصائب والهموم والرضا بقدر الله تعالى.
مثل ما ورد في حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟
قَالَ: أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ .
قُلْتُ: ذَلِكَ بأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟
قَالَ: أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا رواه البخاري (5648)، ومسلم (2571).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فلأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا، فإن لم تف بطهرهم طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفرة، فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة، فورد القيامة طيبا طاهرا، فلم يحتج إلى التطهير الرابع " انتهى من "مدارج السالكين"(1/796).
ثالثا:
عند أهل السنة والجماعة لا يشترط لقبول الأعمال الصالحة أن يكون فاعلها مجتنبا لجميع الذنوب والمعاصي، وإنما لكل عمل شروط قبوله، فالواجب على المسلم أن يعلمها ويجتهد في تحقيقها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" تنازع الناس في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )، فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقا فلم يأت كبيرة، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم " المتقين ".
وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه، وإن كان عاصيا في غيره. ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره " انتهى من "مجموع الفتاوى"(10 /322–323).
مع التنبه أن من شروط قبول بعض الأعمال ترك ذنوب مخصوصة، كالصلاة اشترط لها اجتناب الخمر، والصدقة اشترط لها اجتناب المنّ والأذى، والدعاء اشترط له ترك أكل الحرام، ونحو هذا.
والله أعلم.