لو الإناث تكلموا بصيغه المذكر مع بعض هل يعتبر فيه تشبه بالرجال؟
الحمد لله.
أولا:
جاءت الشريعة بتحريم تشبه النساء بالرجال فيما يختصون به أو يغلب عليهم، والعكس؛ لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" رواه البخاري(5435).
قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/256): " الكبيرة السابعة بعد المائة تشبه الرجال بالنساء فيما يختصصن به عرفا غالبا، من لباس أو كلام أو حركة أو نحوها، وعكسه" انتهى.
وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله في "الفتح" (10/332): "قوله: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين) قال الطبري: المعنى لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس.
قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار.
وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك. وأما من كان ذلك من أصل خلقته، فإنما يؤمر بتكلف تركه، والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ (المتشبهين) " انتهى.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، كيف يكون ذلك التشبه؟ وهل هذا اللعن هو الطرد من رحمة الله وإن كانت المرأة تصلي وتقوم بالأعمال الخيرة؟ جزاكم الله خيراً.
فأجاب: هذا من باب الوعيد، اللعن من باب الوعيد والتحذير، وقد يسلم الرجل من العقوبة بأعمالٍ صالحة أو بتوبةٍ صادقة، وهكذا المرأة قد تسلم من العقوبة بتوبةٍ صادقة أو أعمالٍ صالحة، لكن المقصود من اللعن التحذير، فلا يجوز للرجل أن يتشبه بالكفار ولا بالنساء، والمرأة كذلك، ليس لها التشبه بالرجال ولا بالكفار، لا في الزي ولا في الكلام، ولا في المشي، كله، ليس له أن يتشبه بالمرأة في زيه وفي كلماته وفي مشيه ولا بالكفرة، وهي كذلك ليس لها أن تتشبه بالرجل في زيه من اللباس ولا في زيه من المشي ولا في زيه من الكلام؛ لأن الرسول ﷺ لعن من تشبه من النساء بالرجال ولعن المشتبه من الرجال بالنساء.
وهكذا قال: من تشبه بقومٍ فهو منهم. وقال: قصوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا المشركين. وقال: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس" انتهى من فتاوى نور على الدرب
والحاصل:
أن التشبه في الكلام يدخل فيه ترقيق الرجل صوته أو تمطيطه كما تفعل النساء، ويدخل فيه أيضا استعمال ضمائر المذكر للنساء والعكس، على وجه المزاح أو قصد التشبه، كأن تقول المرأة لصاحبتها: أنتَ، يا ولد، أو قم أو تعالَ، تقول لأخواتها: يا شباب، ونحو ذلك، وهذا مما ينتشر الآن في أوساط بعض النسوة، يفعلن ذلك عمدا، ويعلمن أنه استعمال خطاب الرجل في حق الأنثى، وهو أمر قبيح محرم، داخل في التشبه الملعون فاعله، وهو أبلغ في التشبه من لبس المرأة شيئا خاصا بالرجل.
ومثله في القبح ، بل هو أشد وأقبح منه : لو خاطب الرجل أخاه بخطاب الإناث، فقال: تعالى، وقومي.
فالواجب البعد عن هذا التشبه، وعلى ولي المرأة أن يأخذ على يدها إذا رآها تفعل ذلك.
قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر (1/ 257): " خاتمة: يجب على الزوج أن يمنع زوجته مما تقع فيه من التشبه بالرجال في مشية أو لبسة أو غيرهما خوفا عليها من اللعنة بل وعليه أيضا، فإنه إذا أقرها أصابه ما أصابها وامتثالا لقوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا [التحريم: 6] أي بتعليمهم وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربهم ونهيهم عن معصيته، ولقول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته الرجل في أهله راع، وهو مسئول عنهم يوم القيامة" انتهى.
ثانيا:
هذا المنع كما سبق، إذا لم يكن هناك عرف معتبر في خطاب النساء بضمائر الذكور، كما قد يحدث أحيانا، ويعرف في استعمال أهل اللغة ، عند إرادة التكنية عن النساء، وعدم التصريح بضميرهن؛ إما سترا لهن، كما هي العادة في بعض البلدان، ولها أصل من كلام العرب، أو خطابا للنساء بضمير الذكور، على جهة التغليب، لإرادة الإكرام، وتعظيم شأنهن.
قال ابن عاشور (18/123): " والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها:
أنتم. ولا يقال: أنتن. قال العرجي:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
فقال: سواكم، وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق
فقال: بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقف عليه" انتهى.
جاء في فتوى "المجمع اللغوي"، على الشبكة، بمكة المكرمة:
" أما خطاب النسوة بميم الجمع: فالذي يظهر أن النكتة فيه قصد التعظيم؛ لأن التعظيم لا يكون بضمير الإناث الدال على الجمع، فلا يقال للأنثى الواحدة: أنتن قلتن، فيما أعلم.
إنما يكون التفخيم بميم الجمع، والمخاطِب حين يخاطب الأنثى أو الإناث بـ”أنتم” ونحوها: لا يكون في باله غير التفخيم، وهو معنى صحيح، ولا خطاب له غير هذا اللفظ، فلم تضع له العرب لفظا خاصا، ولم يكن للنساء عظمة، إنما التعظيم للرجال.
وفي هذه الحالة يُستعمل في الخطاب ضمير الذكور، لا الإناث؛ لأنه هو الأليق بالتعظيم لِاعتبارات، منها:
أولها: أن الغالبَ في مقتضِيات التعظيم -من جاهٍ أو منصب أو مُلك أو نحوِها- أن تكون للرجال، شَرعًا وعُرفًا وواقعًا.
ثانيها: أن ضمير الذكور أعمُّ دلالةً من ضمير النسوة؛ لأنه يدخل فيه الإناث -على وجه التغليب- إن شاركن الذكور في مرجعه. وضمير النسوة لا يتمحض إلا للإناث، أو لغير العاقل من الذكور.
ثالثها: أن ضمير الذكور لا يُستعمَلُ لغير العاقل، إلا على وجه تنزيلِه منزلة العاقل. وأما ضميرُ النسوة، فيستعمل للعاقل وغير العاقل، وفي هذا انحطاطٌ له عن درجة ضمير الذكور.
رابعها: أن استعمالَ ضمير الذكور في خطاب الأنثى للتعظيم أضحى نهجًا لغويًّا شائعًا في عصرنا في المكاتبات والمخاطبات؛ والعادة محكمة إن لم تخالف أصلًا أو قياسًا صحيحًا.
ويحتمل أن يكون ذلك من باب الكناية، ولا سيما أنهم يكثرون من الكناية في شأن الأنثى.
ومن ثم فيُعلم أن العرف اللغوي المعاصر المتبع في استعمال ضمير الذكور في خطاب الأنثى للتعظيم لا ينافي أصول اللغة، وله وجه من القياس الصحيح.
أعرض عليكم ما بدا لي، والرأي لكم بما تؤيده الأدلة. والله يحفظكم" انتهى..
تعليق أ.د.محمد جمال صقر: أحب أن أضيف وجهًا آخر من وجوه مخاطبة الإناث بضمير الذكور هو التستر والتحرج، وما زال في استعمال المعاصرين. والله أعلى وأعلم! والسلام."انتهى.
والحاصل:
أنه ما لم تدع حاجة معتبرة عرفا لذلك الخطاب، كما سبق بيانه: فإن خطاب المرأة بضمير الذكور لا يشرع، والتنادي بين النساء بمثل ذلك: هو من التشبه الممنوع.
نسأل الله السلامة والعافية.
والله أعلم.