كيف نجمع يين قوله تعالى عن يحيى صلى الله عليه وسلم (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) بوين ما يروى أن بحيى صلى الله عليه وسلم قتل من قبل اليهود والرومان؟
الحمد لله.
أولا:
مسألة قتل يحيى عليه السلام ليس فيها نص ثابت من الوحي، وغاية ما في مسألة موته أخبار عن السلف مما يشبه أنها أخذت عن أهل الكتاب.
وأخبار أهل الكتاب قد جاء الإذن بالتحديث بها من غير تصديق ولا تكذيب لها، إلا إذا قام دليل على صدقها أو كذبها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) الآيَةَ رواه البخاري (4485).
ثانيا:
القول بأن يحيى عليه السلام مات مقتولا، لا يتعارض مع قول الله تعالى عنه:
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا مريم/ 15.
فالسلام: يعني الأمان والسلامة.
فالله تعالى وعده بالأمان والسلامة عند الموت، وبيّن أهل العلم أن ذلك بسلامته من فتن القبر، وما بعد الموت من الأهوال.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا )، يقول: وأمان من الله يوم ولد، من أن يناله الشيطان من السوء، بما ينال به بني آدم...
وقوله (وَيَوْمَ يَمُوتُ)، يقول: وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتَّاني القبر، ومن هول المطلع، (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) يقول: وأمان له من عذاب الله يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، من أن يروعه شيء، أو أن يُفزِعه ما يُفزِع الخلق " انتهى. "تفسير الطبري" (15 / 481).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
وقال سفيان بن عيينة: " أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، فقال: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) " رواه ابن جرير ... " انتهى. "تفسير ابن كثير" (5 / 217).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" فجمع – أي يحيى عليه السلام - بين القيام بحق الله، وحق خلقه، ولهذا حصلت له السلامة من الله، في جميع أحواله، مبادئها وعواقبها، فلهذا قال: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) وذلك يقتضي سلامته من الشيطان، والشر، والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها، وأنه سالم من النار والأهوال، ومن أهل دار السلام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى والده وعلى سائر المرسلين، وجعلنا من أتباعهم، إنه جواد كريم " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 490).
فالحاصل؛ أن السلامة هنا تتعلق بأمر الدين والمآل في الآخرة، فلا يتعارض هذا مع ما أصاب يحيى عليه السلام من القتل؛ لأنه سلم من الفتنة عند القتل، ونال به درجة الشهادة التي يسلم بها من فتن وأهوال الآخرة.
عَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ رواه الترمذي (1663)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ".
ويتأيد هذا بأن لفظ: ( سَلامٌ ) لم يقترن بـ ( الـ ) التي تدل على العموم والاستغراق، فليس مستغرقا لمصائب الدنيا، فهو عليه السلام قد وعد بسلام عند الولادة: ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ )، ولم يسلم عليه السلام من طعن الشيطان عند الولادة.
عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مريم/36.
رواه البخاري (3431) ومسلم (2366).
فتكون السلامة التي وعد بها يحيى عليه السلام هي التي تتعلق بأمر دينه وآخرته.
والله أعلم.