الحمد لله.
أولًا:
من المهم أن يحرص الإنسان على تلاوة القرآن الكريم، وقد حث الله تعالى على ذلك، فقال سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩))الإسراء/9.
قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) المزمل/4.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا).
رواه أحمد: (6799).
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن القرآن يشفع لمن قرأه في الليل ، وآثره على النوم ، كما روى أحمد (6626) عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه . ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال : فيشفعان" رواه أحمد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (3882).
وانظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(45839)، ورقم: (155027).
ثانيًا:
الأصل في جواب هذا السؤال يرجع لمسألة التحزيب، و(الحاء والزاء والباء) أصل واحد وهو تجميع الشيء، فمن ذلك الحزب الجماعة من الناس، والطائفة من كل شيء حزب، يقال: قرأ حزبه من القرآن، والحزب: الورد، وورد الرجل من القرآن والصلاة حزبه، والحزب: ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة وصلاة كالورد.
انظر: "مقاييس اللغة"، لابن فارس (2/55)، و"لسان العرب"، لابن منظور(1/308).
والأصل في التحزيب ما ثبت عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: (ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟) فقلت: بلى، يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير، قال: (فإنَّ بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام) قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: (فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا) قال: فصم صوم داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أعبدَ الناس قال قلت: يا نبي الله، وما صوم داود؟ قال: (كان يصوم يومًا ويفطر يومًا).
قال: (واقرأ القرآن في كل شهر)، قال قلت: يا نبي الله، إنِّي أطيق أفضل من ذلك، قال: (فاقرأه في كل عشرين)، قال قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: (فاقرأه في كل عشر) قال قلت: يا نبي الله، إنِّي أطيق أفضل من ذلك، قال: (فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا) قال: فشددت، فشدد علي.
قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر).
قال: (فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم)رواه مسلم (1159).
وعَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، رضي الله عنه قَالَ: " قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَنَزَّلُوا الأَحْلاَفَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَنْزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ، فَكَانَ يَأْتِينَا كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ، فَيُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ: وَلاَ سَوَاءَ، كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ، فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، أَبْطَأَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَلَيْنَا اللَّيْلَةَ، قَالَ: (إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ حَتَّى أُتِمَّهُ).
قَالَ أَوْسٌ : فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ، كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؟
قَالُوا : ثَلاَثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ.
رواه أحمد: (19021)، وأبو داود: (1393)، وابن ماجة: (1345).
ففي هذين الحديثين أصلٌ لتحزيب القرآن، وتقسيمه حتى يسهل تعاهده، وقد اشتهر هذا التحزيب عند الصحابة رضي الله عنهم.
ثالثًا:
الأصل في التحزيب أن يكون على السور، لا على الأجزاء والأحزاب.
قال ابن تيمية: "فالصَّحابة إنما كانوا يحزبونه سورًا تامة، لا يحزِّبون السورةَ الواحدة".
ثم قال: " وفيه: أنَّهم حزبوه بالسور وهذا معلوم بالتواتر؛ فإنَّه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية وعشرين وثلاثين وستين، هذه التي تكون رءوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة ونحو ذلك كان في زمنِ الحجاج وما بعده. وروي أنَّ الحجاج أمر بذلك.
ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك.
وإذا كانت التجزئة بالحروفِ محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلومٌ أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر؛ فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون: خمسون آية، ستون آية. وتارة بالسور.
لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد، ولا ذكره أحد؛ فتعين التحزيب بالسور، ...
والمقصود: أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة".
انتهى من "مجموع الفتاوى"(13/ 408 - 412).
وقد توسع شيخ الإسلام ابن تيمية في ذكر وجوه تفضيل تقسيم الصحابة وتحزيبهم، ومنها:
1- أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ في اليوم الثاني مبتدئا بمعطوف كقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)النساء/24، وقوله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)الأحزاب: 31] وأمثال ذلك.
ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض - حتى كلام المتخاطبين - حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني بكلام المجيب كقوله تعالى: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) الكهف/72.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة بسورة كـ (ق) ونحوها وكما كان عمر رضي الله عنه يقرأ (بيونس) و (يوسف) و (النحل) ..
وأما القراءة بأواخر السور وأوساطها، فلم يكن غالبًا عليهم؛ ولهذا تنوزع في كراهة ذلك، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره.
ومن أعدل الأقوال: قول من قال: يُكره اعتياد ذلك، دون فعله أحيانًا؛ لئلا يخرج عما مضت به السنة، وعادة السلف من الصحابة والتابعين.
وإذا كان كذلك؛ فمعلوم أن هذا التحزيب والتجزئة فيه مخالفة للسنة، أعظم مما في قراءة آخر السورة ووسطها في الصلاة.
وبكل حال؛ فلا ريب أن التجزئة والتحزيب الموافق لما كان هو الغالب على تلاوتهم: أحسن.
3- أن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء.
انظر للتوسع: "مجموع الفتاوى" (13/ 410 - 416).
وقال الدكتور عبدالعزيز الحربي في كتابه "تحزيب القرآن" : (108 - 109)، عن تحزيب الصحابة: " ولله هذا التحزيب ما أحسنه وما أجملهُ وما أجله، فقد جمع بين النظائر على نسقٍ، فلم يفصل بين الأنفال والتوبة، وهما كالسورة الواحدة، وجمع بين السور المفتتحة بالحروف المقطعة المختتمة بالراء، ولا فصل بين العتاق الأول (الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء)، وجمع بين الطواسين (الشعراء والنمل والقصص)، وذوات (ألم) (العنكبوت والروم ولقمان والسجدة)، ولم يفصل بين الحواميم السبع، وجعل المفصل على حدة، ثمَّ هو فوق ذلك مقسَّم في أعداده أحسن تقسيم، بطريقة لا كلفة لمعرفتها وترتيبها على الأوتار: ثلاث، وخمس، وسبع.. إلخ».
رابعًا:
هذا التحزيب هو المعروف عند جماعة بـ(فمي بشوق):
1- فالفاء = الفاتحة، ويكون السبع الأول من سورة الفاتحة إلى نهاية سورة النساء.
2- والميم = المائدة، ويكون السبع الثاني من سورة المائدة إلى نهاية سورة التوبة.
3- والياء = يونس، ويكون السبع الثالث من سورة يونس إلى نهاية سورة النحل.
4- والباء = بنو إسرائيل، ويكون السبع الرابع من سورة الإسراء (بنو إسرائيل) إلى نهاية سورة الفرقان.
5- والشين = الشعراء، ويكون السبع الخامس من سورة الشعراء إلى نهاية سورة يس.
6- والواو = والصافات، ويكون السبع السادس من سورة الصافات إلى نهاية سورة الحجرات.
7- والقاف = ق، ويكون السبع السابع والأخير من سورة ق إلى نهاية سورة الناس خاتمة القرآن.
انظر: "مرقاة المفاتيح، للملا القاري" (4/1502).
والله أعلم.