هل يصح هذا الأثر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: " زار الفاروق عمر بن الخطاب في العشر الأواخر من رمضان قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد أعرابيا يقف أمام القبر، ويدعو، فوقف عمر خلفه، وأنصت اليه، فقال الإعرابي: " اللهم هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سُرّ حبيبك، وفاز عبدك، وحزن عدوك، وإن لم تغفر لي حزن حبيبك، ورضي عدوك، وهلك عبدك !!، وأنت أكرم من أن تحزن حبيبك، وترضي عدوك، وتهلك عبدك، اللهم إن كرام العرب إذا مات فيهم سيد أعتقوا عبيدهم عند قبره، وهذا سيد العالمين مات فأعتقني من النار عند قبره" فنادى عمر بأعلى صوته: اللهم إني أدعوك بما دعى هذا الأعرابي، وبكى عند القبر حتى ابتلت لحيته"؟ اللهم نحن ندعوك بما دعى هذا الأعرابي، فأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا، وأرحامنا، وكل من له حق علينا من النار يا الله.
الحمد لله.
هذا الخبر، كذب، ولم يأت في شيء من الكتب المعتمدة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مكذوب.
لكن ورد خبر عن الأصمعي وليس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتناقلته بعض كتب المتأخرين بلا إسناد يدل على صحته.
ومن ذلك ما أورده محمد بن يوسف الصالحي الشامي في كتابه: "سبل الهدى والرشاد" (12/ 391)، حيث قال:
" قال المجد اللغوي: وروينا عن الأصمعي قال: وقف أعرابي مقابل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشّيطان عدوّك، فإن غفرت لي سرّ حبيبك، وفاز عبدك، وغضب عدوّك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك، ورضي عدوّك، وهلك عبدك، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك، وترضي عدوّك وتهلك عبدك، اللهمّ إنّ العرب الكرام إذا مات منهم سيّد أعتقوا على قبره، وإنّ هذا سيّد العالمين فأعتقني على قبره.
قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب، إن الله تعالى قد غفر لك، وأعتقك بحسن هذا السّؤال ".
وهذه رواية لا إسناد لها أيضا، ولا يُعلم أنها تثبت؛ ولا حتى عن الأصمعي!!
ثم هي تحتوي على جملة من الباطل، بيّنه الشيخ محمد بشير السهسواني رحمه الله تعالى، حيث قال:
قوله: وفي "الجوهر المنظم" أيضا: أن أعرابيا وقف على القبر الشريف، وقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت يا ربي أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك، اللهم إن العرب إذا مات فيهم سيد اعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين فاعتقني على قبره يا أرحم الراحمين، فقال له بعض الحاضرين: يا أخا العرب، إن الله قد غفر لك بحسن هذا السؤال.
أقول: هذا مما لا يصح الاحتجاج به على المطلوب من وجوه:
(الأول): أن هذه القصة مذكورة بلا سند لها، فلا بد على من يحتج بها من بيان سند، وتوثيق رجاله.
و (الثاني): أن فعل الأعرابي ليس من الحجة في شيء... وبالجملة ذكر أمثال هذه الحكايات في محل الاستدلال أدل دليل على جهل صاحبه" انتهى من "صيانة الإنسان" (ص 259).
ثم لو صحت القصة من أين للأصمعي أن يطلع على الغيب، ويعرف أن الله تعالى قد استجاب له. والأصمعي أجل وأعلم بالله من أن يتألى عليه، أو يقول عليه بغير علم.
وقد اشتمل هذا الدعاء على لفظ قبيح شنيع لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث وردت فيه عبارة: " وإن لم تغفر لي غضب حبيبك... وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك ".
فهل النبي صلى الله عليه وسلم يغضب من تدبير الله تعالى في خلقه، بالمغفرة وعدم المغفرة؟! حاشاه صلى الله عليه وسلم، بل جاءنا بعقيدة الرضا عن الله تعالى في جميع الحالات.
فما أعظم خسران من يعرض عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، ويتتبع مثل هذه الحكايات!
والله أعلم.