قال تعالى(ثُمَّ يَومَ القِيامَةِ يُخزيهِم وَيَقولُ أَينَ شُرَكائِيَ الَّذينَ كُنتُم تُشاقّونَ فيهِم قالَ الَّذينَ أوتُوا العِلمَ إِنَّ الخِزيَ اليَومَ وَالسّوءَ عَلَى الكافِرينَ)النحل/٢٧، هل يجوز الوقف على "شركائي"، ثم البدأ ب " أين شركائي"؟ وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى الْقُرْبٰى وَيَنْهٰى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل/90. هل يجوز الوقف على"وينهى"، ثم البدأ ب " وينهى"؟ وقال تعالى (يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ .....) هل يجوز الوقف على"وامسحوا"، ثم البدأ ب"وامسحوا"؟
الحمد لله.
أولًا :
علم الوقف والابتداء من العلوم المهمة لقارئ القرآن ، قال أبو بكر الأنباري : " ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه: معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام والوقف الكافي الذي ليس بتام، والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كاف " انتهى.
انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" (1/108).
وقال "الأشموني" : " ولا يقوم بهذا الفن إلَّا من له باع في العربية، عالم بالقراءات، عالم بالتفسير، عالم باللغة التي نزل القرآن بها على خير خلقه" انتهى.
انظر: "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" (1/12).
وقال "ابن الجزري" : "ليس كل ما يتعسفه بعض المعربين، أو يتكلفه بعض القراء، أو يتأوله بعض أهل الأهواء مما يقتضي وقفا وابتداء، ينبغي أن يتعمد الوقف عليه، بل ينبغي تحري المعنى الأتم، والوقف الأوجه.
وذلك نحو الوقف على وارحمنا أنت، والابتداء مولانا فانصرنا على معنى النداء.
ونحو ثم جاءوك يحلفون ثم الابتداء بالله إن أردنا.
ونحو وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك ثم الابتداء بالله إن الشرك على معنى القسم.
... فإن ذلك وما أشبهه تمحل وتحريف للكلم عن مواضعه يعرف أكثره بالسباق والسياق" انتهى بتصرف من النشر: (1/ 231-232).
وقد نبه "ابن الجزري" على قاعدة مهمة ، فقال : "وقد يكون الوقف حسنا، والابتداء به قبيحا نحو: ( يخرجون الرسول وإياكم ) ، الوقف عليه حسن لتمام الكلام، والابتداء به [ = يعني بـ : ( وإياكم .. ) ] قبيح؛ لفساد المعنى، إذ يصير تحذيرا من الإيمان بالله تعالى.
وقد يكون الوقف قبيحا، والابتداء به جيدا نحو (من بعثنا من مرقدنا هذا) فإن الوقف على (هذا) قبيح عندنا؛ لفصله بين المبتدأ وخبره، ولأنه يوهم أن الإشارة إلى مرقدنا، وليس كذلك عند أئمة التفسير، والابتداء بـ (هذا): كاف، أو تام؛ لأنه وما بعده جملة مستأنفة رد بها قولهم"، انتهى.
"النشر في القراءات العشر" (1/230).
ثانيًا :
(1) قال تعالى: ثُمَّ يَومَ القِيامَةِ يُخزيهِم وَيَقولُ أَينَ شُرَكائِيَ الَّذينَ كُنتُم تُشاقّونَ فيهِم قالَ الَّذينَ أوتُوا العِلمَ إِنَّ الخِزيَ اليَومَ وَالسّوءَ عَلَى الكافِرينَ النحل/٢٧.
لا يظهر صواب الوقف على "شركائي" ثم البدأ بـ " أين شركائي" ، لأن قوله : "أين شركائي" مقول القول ، والقائل هو الله تعالى ، فلا يجوز للقارئ أن ينسب القول لنفسه ، لأنه يفسد المعنى.
فقوله : (وَيَقُولُ) أي: "لهم تفضيحًا وتوبيخًا فهو الخ بيان للإخزاء"، انتهى.
انظر : "تفسير أبي السعود" (5/108).
و"يقول": "معطوفة بالواو على يخزي وتعرب إعرابها وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، بمعنى: ويقول لهم، والجملة بعدها: في محل نصب مفعول به - مقول القول -" انتهى.
انظر : "الإعراب المفصل لكتاب الله المرتل" (6/133).
وينبغي لمن احتاج الوقف هنا، أن يعيد القراءة من عند : ( ويقول )؛ فيبدأ قراءته بعد الوقف: ( وَيَقولُ أَينَ شُرَكائِيَ ).
ثالثًا :
(٢) قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى الْقُرْبٰى وَيَنْهٰى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ سورة النحل/90.
لا يصح الوقف على "وينهى" ثم البدأ بـ " وينهى"، لأن النهي متعلقه ما بعده ، والأمر تم عند قوله تعالى : (وإيتاء ذي القربى) ، وربما أوهم الوقف على و(ينهى) خلاف الصحيح، فالله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ولا ينهى عن شيء منها ، بل نهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي .
وذكر "الأشموني" أن الوقف على قوله : (القربى) كافٍ ، والوقف على (البغي) أكفى .
انظر: "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" (1/413).
رابعًا :
(٣) قال تعالى: يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ سورة المائدة/6.
لا يصح تعمد الوقف على "وامسحوا" ثم البدأ بـ"وامسحوا"، لأن المسح للرأس ، والغسل للوجه واليدين .
ومن احتاج إلى الوقف، فأيسر له، وأوضح في المعنى أن يقف عند (المرافق).
خامسًا :
ما ذكرناه من عدم اختيار الوقف في المواضع المذكورة، إنما هو في الوقف الاختياري أمَّا الاضطراري فلا حرج فيه ، قال "ابن الجزري" : " حيث اضطر القارئ إلى الوقف على شيء من ذلك باعتبار قطع نفس، أو نحوه من تعليم، أو اختبار؛ جاز له الوقف بلا خلاف عند أحد منهم، ثم يعتمد في الابتداء ما تقدم من العودة إلى ما قبل فيبتدئ به، اللهم إلا من يقصد بذلك تحريف المعنى عن مواضعه، وخلاف المعنى الذي أراد الله تعالى، فإنه والعياذ بالله يحرم عليه ذلك، ويجب ردعه بحسبه على ما تقتضيه الشريعة المطهرة والله تعالى أعلم"، انتهى من"النشر في القراءات العشر" (1/231).
وقال : " (وأما الابتداء) فلا يكون إلا اختياريًّا ؛ لأنه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة فلا يجوز إلا بمستقل بالمعنى موف بالمقصود"، انتهى من"النشر في القراءات العشر" (1/230).
سادسًا :
أسهل طريقة لتعلم الوقف والابتداء هي الأخذ بما وجد في المصاحف من علامات للوقف والابتداء، فينبغي على عموم المسلمين ملاحظة ما ذكر من التعريف بتلك العلامات في أواخر المصاحف، وأن يستعملوها على الصورة التي بُيِّنَت لهم، فإنَّ ذلك معين على تدبر القرآن وفهمه، خاصَّةً ما كان منه من الوقف اللازم، فعليهم التزام الوقف عنده، وما كان من الممنوع فلا يوقف عنده، ويترك الوقف في موضع ليس فيه علامة وقف أصلًا.
ولا بد أن يراعى في الابتداء صحة المعنى واستقامة السياق، ولو استعمل إنسان علامات الوقف المثبتة في المصاحف في خلال الآية لا على رأسها، فوقف عند علامة من تلك العلامات غير علامة الوقف الممنوع، فلو جعل ابتداءه من الكلمة التالية لعلامة الوقف دائمًا فذلك أسلم له وأبعد عن الخلل.
لكن لو انقطع نفسه في غير موضع وقف، فالذي يحسن به: أن يعود إلى شيء من الآية قبل موضع وقوفه، فيصله بما بعده، بشرط أن يصح المعنى بذلك الابتداء.
كما لو قرأ: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) فانقطع النفس، وليس عند هذا في المصحف وقف، إنما الوقف على قوله: ثم أبلغه مأمنه، وهو وقف كاف، ويسمى (الوقف الجائز)، فعليه حينئذ أن يعود ليبدأ في موضع يتصل به الكلام المفيد، فلا يبدأ بقوله: (يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) التوبة/6، فهذا مخل بالسياق، مخل بنظم الكلام وإعرابه، وإنما يرجع فيقرأ: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) التوبة/6.
وهذا هو اللائق بحال الناس عامة.
وإنما يخالف في ذلك ، ويتخير في الوقف لنفسه: من كان عالما بمعاني كتاب الله، عالما بلسان العرب، وطرائق البيان، فاهما لفن الوقف والابتداء، وأصول ذلك، وما يستملح منه ، وما يستقبح.
وأما تعمد الوقف، مخالفة للمعروف عن الناس، واشتهارا بأمر غريب، فهو علامة سوء، والعياذ بالله، ودليل على قلة فقه الرجل، وفهمه.
سابعا:
من علامات الوقف والابتداء في المصحف:
(مـ): وتفيد لزوم الوقف، ولزوم البدء بما بعدها وهو ما يسمى بالوقف اللازم.
(لا): تفيد النهي عن الوقف في موضعها، والنهي عن البدء بما بعدها.
(صلي): تفيد بأن الوصل أولى مع جواز الوقف.
(قلي): تفيد بأن الوقف أولى مع جواز الوصل.
(ج): تفيد جواز الوقف.
(النقط المثلثة): تفيد جواز الوقف بأحد الموضعين، وليس في كليهما، وهو ما يسمى بوقف المعانقة.
وكانت المصاحف الأولى خالية من علامات الوقف، وظلت كذلك قرونًا كثيرة، وعمل الخطاطون في فترات متأخرة على وضع علامات لأنواع الوقف التي ذكرها العلماء في كتبهم، مثل (م، ج، صلى، قلى، لا) ونحوها، وتجد في آخر المصاحف المطبوعة توضيحًا لدلالة تلك العلامات وما يشبهها.
وقد تختلف هذه العلامات من مصحف إلى آخر، تبَعًا لاختلاف اجتهاد العلماء في فهم التركيب النحوي للآيات، وما يترتب على ذلك من تغير المعنى.
انظر: "الدليل إلى القرآن"(144).
والله أعلم.