قرأت منذ مدة في العديد من المواقع أنه يجوز للمرء إهداء ثواب عمله للمتوفى، وأن العلماء اختلفوا في جواز إهداء بعض الأعمال البدنية كالصلاة، واتفقوا على جواز إهداء أعمال أخرى مثل الصدقات والدعاء، وسؤالي هو: كيف نجمع جواز إهداء ثواب الأعمال مع قوله تعالى:(من عمل صالحا فلنفسه)، وأيضا على سبيل المثال قوله تعالى:(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم)، أليس معنى هذه الآيات أن الإنسان ثواب عمله له فقط ولا يستطيع منح ثواب اعماله لغيره؟ علما أني بحثت كثيرا في مواقع متعددة، ولم أجد جوابا لسؤالي، والآية الوحيدة التي جواب عنها العلماء هي:(وأن ليس للأنسان إلا ما سعى) وهي لا تشبه الآيات التي ذكرتها من ناحية المعنى، أفيدوني.
الحمد لله.
أولا:
سبق في الموقع بيان صحة اهداء ثواب الأعمال الصالحة من حيث الأصل، مع الاختلاف في تعيين أنواع الطاعات التي يصل ثوابها إلى الغير، كمثل ما سبق في جواب السؤال رقم: (42384)، ورقم: (46698).
ثانيا:
ما ورد في قول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ الجاثية/15.
وقول الله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) الإسراء/7.
فهذه الآيات ونحوها ليس فيها ما يبطل صحة اهداء ثواب الطاعات، بل ليس لها تعلق بأصل البحث الفقهي في المسألة.
وبيان هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه الآيات وردت لبيان أن استجابة الإنسان لدعوة الرسل عليهم السلام بالإيمان والعمل الصالح؛ إنما يكون نفعها عائدا إليه هو، لا إلى غيره، فلا تزيد استجابته للرسل شيئا في ملك الله، ولا في فضيلة الرسل، ولا يزيد غيره، ولا ينقصه؛ إنما ذلك كله، حسنه وسيئُه: عائد إلى نفسه. ومن ذلك المعنى قول الله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فصلت/12.
وإنما أراد الله تعالى بدعوة الرسل: نفع الناس أنفسهم، فمن استجاب وأطاع، فإنه سيصله الأجر كاملا مُوفَّى، لا يُظلم شيئا.
كما جاء مبينا في نحو قول الله تعالى:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فصلت/46.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ )، شرط وجوابه، وكذا: ( وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ).
والله جل وعز مُستغنٍ عن طاعة العباد، فمن أطاع فالثواب له، ومن أساء فالعقاب عليه. ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )؛ نفى الظلم عن نفسه جل وعز، قليله وكثيره، وإذا انتفت المبالغة؛ انتفى غيرها، دليله قوله الحق: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) " انتهى من"تفسير القرطبي" (18/ 432).
ثالثا:
وأما مسألة هل يصل نفع أعماله إلى غيره، أو لا؟ فهذه قد سكتت عنها هذه الآيات، لكن بينتها نصوص أخرى، حيث بينت أن المؤمن قد ينفع غيره ببعض أعماله، بالدعاء والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا قد يضر غيره ببعض أعماله، كمن يسعى في نشر الضلال والفتنة.
فمن يستجيب لدعوة المصلحين، فهو يأخذ أجره كاملا، لكن مع ذلك ينفع بعمله الداعي، فيأخذ مثل أجره.
كحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ... رواه مسلم (2674).
وحديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ رواه مسلم (1893).
الوجه الثاني:
أن نفع العبد لغيره ببعض الأعمال الصالحة، من دعاء وحج وغيره، هو نفسه عمل صالح؛ فهو داخل في عموم الآيات التي أشرت إليها، كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"من أحسن إلى الناس؛ فإلى نفسه. كما يروى عن بعض السلف أنه قال: ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد، وإنما أحسنت إلى نفسي، وأسأت إلى نفسي. قال تعالى: ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )، وقال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ).." انتهى من "مجموع الفتاوى"(30/ 364 - 365).
والله أعلم.