هل يوصف الله تعالى بالمكر والخداع والخيانة ، كما في قوله تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) وقوله : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) ؟.
الحمد لله.
صفات الله تعالى كلها صفات كمال ، دالة على أحسن المعاني وأكملها ، قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) النحل/60 . وقال تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الروم/27 .
ومعنى المثل الأعلى أي الوصف الأكمل .
قال السعدي في تفسيره (ص 718، 1065) :
"المثل الأعلى" هو كل صفة كمال اهـ .
والصفات ثلاثة أنواع :
الأول : صفات كمال ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه . فهذه يوصف الله تعالى بها وصفاً مطلقاً ولا يقيد بشيء ، مثال ذلك : العلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والرحمة . . . إلخ .
الثاني : صفات نقص ، لا كمال فيها ، فهذه لا يوصف الله تعالى بها أبداً ، كالنوم ، والعجز ، والظلم ، والخيانة . . إلخ .
الثالث : صفات يمكن أن تكون كمالاً ، ويمكن أن تكون نقصاً ، على حسب الحال التي تُذكر فيها .
فهذه لا يوصف الله تعالى بها على سبيل الإطلاق ، ولا تنفى عن الله تعالى على سبيل الإطلاق ، بل يجب التفصيل ، ففي الحال التي تكون كمالاً يوصف الله تعالى بها ، وفي الحال التي تكون نقصاً لا يوصف الله تعالى بها. ومثال هذا : المكر ، والخديعة ، والاستهزاء .
فالمكر والخديعة والاستهزاء بالعدو صفة كمال ، لأن ذلك يدل على كمال العلم والقدرة والسلطان . . ونحو ذلك .
أما المكر بالمؤمنين الصادقين فهو صفة نقص .
ولذلك لم يرد وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الإطلاق ، وإنما ورد مقيداً بما يجعله كمالاً .
قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) النساء /142 . فهذا خداع بالمنافقين .
وقال : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) الأنفال/30 . وهذا مكر بأعداء الله الذين كانوا يمكرون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وقال عن المنافقين : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) البقرة /14-15 . وهذا استهزاء بالمنافقين .
فهذه الصفات تعتبر كمالاً في هذا السياق الذي وردت فيه . ولهذا يقال : الله تعالى يستهزئ بالمنافقين ، ويخادعهم ، ويمكر بأعدائه . . . ونحو ذلك . ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالمكر والخادع وصفاً مطلقاً . لأنه حينئذٍ لا يكون كمالاً .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : هل يوصف الله بالمكر؟ وهل يسمى به ؟
فأجاب :
" لا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيداً ، فلا يوصف الله تعالى به وصفاً مطلقاً ، قال الله تعالى : ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) الأعراف/99 . ففي هذه الآية دليل على أن لله مكراً ، والمكر هو التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر. ومنه جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ( الحرب خدعة ) .
فإن قيل : كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم ؟
قيل : إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق ، فلا يجوز أن تقول : "إن الله ماكر" وإنما تذكر هذه الصفة في مقام يكون مدحاً ، مثل قوله تعالى : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ) الأنفال /30 ، وقوله : ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) النمل /50 .
ولا تنفى هذه الصفة عن الله على سبيل الإطلاق ، بل إنها في المقام الذي تكون مدحاً يوصف بها ، وفي المقام الذي لا تكون فيه مدحاً لا يوصف بها. وكذلك لا يسمى الله به فلا يقال : إن من أسماء الله الماكر ، والمكر من الصفات الفعلية لأنها تتعلق بمشيئة الله سبحانه" اهـ . "فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (1/170).
وسئل أيضاً : هل يوصف الله بالخيانة ؟ والخداع كما قال الله تعالى: ( يخادعون الله وهو خادعهم )؟
فأجاب :
" أما الخيانة فلا يوصف الله بها أبداً ، لأنها ذم بكل حال ، إذ إنها مكر في موضع الائتمان ، وهو مذموم ، قال الله تعالى : ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) الأنفال /71 ، ولم يقل : فخانهم .
وأما الخداع فهو كالمكر يوصف الله تعالى به حين يكون مدحاً ، ولا يوصف به على سبيل الإطلاق قال الله تعالى: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) النساء /142 اهـ .
"فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (1/171) .
والله أعلم .