الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى عن فرعون وقومه: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) الشعراء/57-59.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الْأَعْرَافِ:137] .
وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)الْقَصَصِ/5- 6.
يقول الإمام ابن كثير : "يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فِي غَرَقِهِمْ، وَكَيْفَ سَلَبَهُمْ عِزَّهُمْ، وَمَالَهُمْ، وَأَنْفُسَهُمْ، وَأَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، كَمَا قَالَ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَقَالَ هَاهُنَا: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ..
ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فِي تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ، وَالشَّرْعِ، وَالرَّسُولِ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَتَوْرِيثِهِ إِيَّاهُمْ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ يَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّعَادَةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ; لِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْقَهَّارُ"، انتهى من "البداية والنهاية" (2/ 117-122).
ثانيًا:
اختلف العلماء في كيفية وراثة بني إسرائيل، وهل المقصود وراثة مصر أم بلاد الشام، على أقوال:
1- قيل: ردَّ بني إسرائيل إلى أرض مصر فسكنوها.
2- وقيل: ملَكوها فنقلوا ما فيها وذهبوا به إلى الشام وسكنوا الشام.
3- وقيل: ملكوا بعد ذلك بلادَ مصر وكنوزَهم ومدائنَ فرعون، بعد ذلك بزمانٍ في عصر داود وغيره.
انظر: "التيسير في التفسير" للنسفي (11/ 274).
ونقل "الواحدي" في "البسيط" في قوله: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: "قال الحسن: رجع بنوا إسرائيل إلى مصر بعد إهلاك فرعون.
وقال مقاتل: إن الله تعالى ردَّ بني إسرائيل بعد ما أغرق فرعون وقومه إلى مصر"، انتهى من "التفسير البسيط" (17/57).
ونقل أبو حفص النسفي عن وهب قال: "ولمَّا عبروا البحر أرسل موسى عليه السلام جندين عظيمين في كلِّ جندٍ اثنا عشر ألفًا، ونَقَب عليهم يوشعَ بنَ نون وكالبَ بن يوقنا، وهما اللذان أنعم اللَّه عليهما، إلى مدائن فرعون وخزائنه وهي يومئذ خلوٌ عن أهلها، قد هلكوا فلم يبق إلا النسوان والصبيان والزَّمْنى والهَرْمى؛ فغنموا أموالهم من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة ما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، وأورثهم اللَّه عز وجل ديارهم وأموالهم، فذلك قوله تعالى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ"، انتهى من"التيسير في التفسير"(6/491).
4- وذكر ابن عطية وجهًا آخر في تفسير الآية، قال: «"(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك.
وقد يحتمل أن يكون (أَوْرَثْناها) معناه الحالة من النعمة، وإن لم يكن في قطر واحد"، انتهى من"المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (3/142).
وقال: "وتوريث بني إسرائيل يحتمل مقصدين: أحدهما أنه تعالى ورثهم هذه الصفة من أرض الشام.
والآخر أنه ورثهم مصر، ولكن بعد مدة طويلة من الدهر، قاله الحسن.
على أن التواريخ لم تتضمن ملك بني إسرائيل في مصر"، انتهى من "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (4/232).
وهذا الاحتمال الذي أبداه ابن عطية، جزم به الطاهر ابن عاشور، ليتوافق معنى الآية، مع ما هو معروف من التاريخ. قال:
"وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْزَأَ أَعْدَاءَ مُوسَى مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ إِذْ أَهْلَكَهُمْ وَأَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرَاتٍ مِثْلَهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا كَانَ بِيَدِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَارَقُوا أَرْضَ مِصْرَ حِينَئِذٍ وَمَا رَجَعُوا إِلَيْهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [28] (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ).
وَلَا صِحَّةَ لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ قِصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا فَمَلَكُوا مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمْلِكُوا مِصْرَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا، سَائِرَ الدَّهْرِ؛ فَلَا مَحِيصَ مِنْ صَرْفِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى تَأْوِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّارِيخُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ.
فَضَمِيرُ أَوْرَثْناها هُنَا : عَائِدٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ جَنَّاتٍ وَعُيُونًا وَكُنُوزًا"، انتهى من"التحرير والتنوير" (19/133).
والله أعلم.