أنا من سكان العراق، وأعمل بتدريس محو الأمية، اقترحوا علي أن افتح صف تدريس، وستمنحني العتبة أو المرقد الخاصة بالعباس بن علي (رض) أجرا عليها، وتعلمون أن هذه العتبة تأتي بهذه الأموال من صدقات الناس الذين يضعونها هنالك عند قبره، ويعطون العتبة حق التصرف فيها، ولكن أغلب هذه الصدقات ليست لوجه الله تعالى، ويشركون بها، أو تكون لأحد أهل البيت، وفيها من هي لوجه الله تعالى، فما حكم أخذ هذا المال منهم كأجرة لي؟
الحمد لله.
أولا:
لا يخفى على مسلم ما يرتكبه الجهلة عند المشاهد والأضرحة من الشرك بالله تعالى، كدعاء الميت والاستغاثة به والنذر له، والسجود له، وغير ذلك من أنواع العبادات التي لا يجوز أن تصرف لغير الله.
ثانيا:
النذور والصدقات التي يضعها الجهلة عند الأضرحة، إن قصد بها التقرب إلى الميت فهو شرك ، والنذر والصدقة باطلة، يجب ردها إلى صاحبها –إن عُلم-؛ فإن لم يعلم فإنه يُتصدق بها على الفقراء والمساكين.
وإن قصدوا بها التقرب إلى الله ، فهي حرام أيضا ، لأن في ذلك إقرارا لهذه المشاهد والأضرحة ، وإقرارا لما يفعل عندها من المحرمات والشرك بالله تعالى.
وقد منع الرسول صلى الله عليه وسلم الوفاء بالنذر في مكان يعبد فيه غير الله.
فعن ثابت بن الضحاك قال : نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً بـ " بُوانة " ( وهو اسم موضع ) فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلاً بـ " بُوانة " .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟
قالوا: لا.
قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟
قالوا: لا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك ؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".
رواه أبو داود ( 3313 ) وصححه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/180).
قال الصنعاني:
"وهو دليل على أن من نذر أن يتصدق أو يأتي بقربة في محل معين : أنه يتعين عليه الوفاء بنذره ، ما لم يكن في ذلك المحل شيءٌ من أعمال الجاهلية" انتهى من "سبل السلام" (4/114).
ثالثا:
هذه الصناديق التي تكون عند الأضرحة يختلط فيها المال الحرام بالحلال، فمنها ما أنفقه صاحبه ابتغاء مرضات الله، ومنها ما أنفقه صاحبه تقربا إلى صاحب القبر، ومنها ما يكون صاحبه قد فوض فيه القائمين على هذه المشاهد ينفقونه في الصدقات ومصالح المسلمين العامة، نيابة عنه، ومثل هذا المال لا يحرم الأخذ منه إذا كان الآخذ مستحقا، والأفضل عدم الأخذ منه إلا إذا كان فقيرا محتاجا.
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
ورد في بعض المجلات الناطقة باسم الإسلام مقال جاء فيه: إن بعض المسلمين ينذرون إن حصل لهم كذا وكذا فسيقدمون بعض الأموال لصناديق النذور الموضوعة في المساجد المقامة على أضرحة الأولياء والصالحين، وهذه الأموال تجرد كل عام وتقسم على العاملين بهذه المساجد كالإمام وغيره، ويرجو من سماحتكم التوجيه في هذا الموضوع.
فأجاب :
"هذه النذور التي يتقرب بها الناس إلى أصحاب القبور والسدنة التي على القبور كلها باطلة، وكلها شرك بالله تعالى؛ لأن النذر عبادة، فلا يجوز أن يصرف لغير الله تعالى، فلا يجوز أن ينذر لقبر البدوي أو الحسين أو فلان أو فلان أو فلان لا دراهم ولا شمعًا ولا خبزًا.. ولا غير ذلك، كل ذلك منكر لا يجوز، كما أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم منكر وهكذا الذبح لهم والتقرب إليهم بالذبائح منكر...
فإذا نذر أن يتصدق بكذا وكذا للشيخ البدوي أو للسيد حسين أو للشيخ عبد القادر الجيلاني أو لفلان أو لفلان : فهذه نذور باطلة، نذور شركية باطلة.
وهذا المال الذي يجمع في الصناديق: يجب أن يفرق على الفقراء، ولا يعطاه إمام المسجد ولا خدم المسجد، ولا السدنة؛ لأنهم أعانوا على الشرك ودعوا إلى الشرك، فهم بدعائهم إلى الشرك ورضاهم بالشرك : يكونون مشركين بهذا العمل، فإن من دعا إلى الشرك ورضي بالشرك فهو مشرك نسأل الله العافية، وهؤلاء السدنة الذين يدعون الناس إلى التقرب إلى أصحاب القبور معناه أنهم يضلونهم، ويدعونهم إلى الشرك بالله تعالى، فلا يجوز أن تدفع إليهم هذه الأموال، بل يجب أن تؤخذ من الصناديق، يأخذها ولي الأمر، وتدفع إلى الفقراء والمساكين الذين لا تعلق لهم بهذه القبور" انتهى .
وقال الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله ، مفتي مصر وشيخ الأزهر الأسبق المتوفى سنة (1374هـ ، 1954م) :
"فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم: فحرام بإجماع المسلمين، مالم يقصدوا صرفه للفقراء الأحياء، قولا واحدا انتهى - .
والظاهر لنا: أن هؤلاء العوام ، وإن قالوا بألسنتهم إني نذرت لله أو تصدقت لله؛ فمقصدهم في الواقع ونفس الأمر: إنما هو التقرب إلى الأولياء والصالحين، وليس مقصدهم التقرب إلى الله تعالى وحده، ولم يبتغوا بذلك وجهه...
مما ذكر يتبين أن نذر العوام لأرباب الأضرحة، أو التصدق لهم تقربا إليهم ، وهو ما يقصده هؤلاء الجهلة مما ينذرونه أو يتصدقون به: حرام بإجماع المسلمين ، والمال المنذور أو المتصدق به يجب رده لصاحبه إن علم.
فإن لم يعلم فهو من قبيل المال الضائع الذى لا يعلم له مستحق، فيصرف على مصالح المسلمين، أو على الفقراء؛ ولا يتعين فقير بصرفه إليه، فليس لفقير معين، ولو كان خادما للضريح أو قريبا لصاحبه حق فيه قبل القبض.
ومن قبض منها شيئا، وكان فقيرا فإنما يملكه بالقبض، ولا يجوز لغنى أن يتناول منه شيئا" انتهى من "فتاوى دار الإفتاء المصرية" (6/19) .
رابعا:
جواز الأخذ من هذا المال مشروط بما إذا لم يكن في ذلك إقرار لهذه المشاهد والأضرحة، ولما يفعل عندها، ولم يكن فيه تشجيع لجهلة المسلمين بالتصدق عندها حين يرون أن القائمين على هذه المشاهد يقومون ببعض الأعمال النافعة، كالصدقات أو تعليم محو الأمية أو غير ذلك من الأعمال المفيدة.
وبناء على هذا يقال:
إذا كان تدريسك سيتم الإعلان عنه بأنه تحت إشراف هذه العتبة، فلا يجوز العمل في ذلك، ولو كان العمل مجانيا، لأن أقل ما يقال حينئذ إن هذا العمل فيه إقرار للمنكر، بل وتشجيع الناس عليه.
أما إذا كان العمل لن يتم الإعلان عنه بأنه تابع لهذه العتبة، فلا حرج عليك حينئذ من العمل ، وتقاضي بعض الأموال مقابل هذا العمل.
والذي ننصح به، هو عدم العمل مع هؤلاء، ويكفيك ما تقومين به من عمل مفيد بمفردك، وإن كنت في حاجة إلى المال، فالواجب على أغنياء المسلمين أن يقوموا بتمويل مثل هذا العمل النافع، كما يجوز لك أن تأخذي أجرا ممن تقومين بتعليمهم.
نسأل الله تعالى أن يوفقك لكل خير.
والله أعلم .