الحمد لله.
أولا:
العمل باليقين هو الأصل، ويعمل بغلية الظن في كثير من الأحكام عند تعذر اليقين. ويسمى غلبة الظن، وأكبر الرأي، وغالب الرأي.
قال الدكتور محمد صدقي البرنو في "موسوعة القواعد الفقهية" (1/252):
" أكبر الرأي، فيما لا تُعلم حقيقتُه، كاليقين.
وفي لفظ: "أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما يبنى أمره على الاحتياط.
وفي لفظ: "أكبر الرأي، فيما لا يمكن الوقوف عليه: بمنزلة الحقيقة.
معنى هذه القواعد ومدلولها:
أكبر الرأي: المراد به غلبة الظن، وهو الإدراك للجانب الراجح.
واليقين: هو الإدراك الجازم المستند إلى الدليل القطعي.
وتدل هذه القواعد على أن الأمور التي لا تُعلم حقيقتها، أو لا يمكن الوقوف عليها بدليل قطعي - وقد غلب على ظن المجتهد فيها حكم مبني على الاحتياط - فيجب عليه أن يعمل بموجب هذا الظن والرأي الغالب، لأن الوقوف على اليقين والحقائق في أكثر الأحكام متعذر" انتهى.
هذا من حيث التأصيل العام.
ثانيا:
إن كان السؤال عن الصلاة متى يعمل فيها باليقين ومتى يعمل فيها بغلبة الظن؟ -كما في عنوان السؤال- .
فالجواب :
أن من شك في صلاته، وكان له ظن وترجيح، عمل بغالب ظنه, وسجد للسهو بعد السلام.
ومن لم يغلب على ظنه شيء، عمل باليقين وهو الأقل، وسجد للسهو قبل السلام.
وقد دلت السنة على هذا التفصيل.
روى مسلم (571) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ).
وروى البخاري (401)، ومسلم (572) عن عَبْد اللهِ بن مسعود قال: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِبْرَاهِيمُ: زَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: (إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ).
وعند أبي داود (1028): (وَأَكْبَرُ ظَنِّكَ).
قال ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود" (5/389): "استدل به الحنفية على أن من تكرر منه السهو فله العمل بغلبة الظن، وحملوا حديث أبي هريرة في الأخذ باليقين وهو الأقل على من لم يغلب على ظنه شيء، وحملوا هذا الحديث على من ظن، قالوا: ويندفع به التعارض.
وأجابوا عن قولنا في حديث أبي هريرة: إن الصلاة في ذمته بيقين، فلا تبرأ ذمته إلا بيقين؛ بأنَّ الظن الغالب تبرأ به الذمة، بدليل أن الصلاة متوقفة على شروط مظنونة بالاتفاق" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (3/381): " وهذا يدلُّ مع الحديث الأول على أن الشَّاكَّ له حالان:
الأولى: حال يمكن فيها التَّحري، وهي التي يغلب فيها الظَّنُّ بأحد الأمرين.
الثانية: حال لا يمكن فيها التَّحري، وهي التي يكون فيها الشَّكُّ بدون ترجيح.
وبناءً على ذلك نقول: إذا شَكَّ في عدد الرَّكعات، فإن غلب على ظَنِّه أحد الاحتمالين عَمِلَ به، وبَنَى عليه، وسَجَدَ سجدتين بعد السَّلام، وإنْ لم يترجَّح عنده أحد الاحتمالين أخذ بالأقل، وبَنَى عليه، وسَجَدَ قبل السَّلام.
مثال ذلك: رجلٌ صَلَّى وشَكَّ هل صَلَّى ثلاثاً أم أربعاً؟ ولكن ترجَّحَ عنده أنها أربع. نقول: اجعلها أربعاً؛ لأنَّه ترجَّح عندك، ثم سَلِّمْ، ثم اسجدْ سجدتين بعد السَّلام.
وإذا ترجَّحَ عنده أنها ثلاث، يجعلها ثلاثاً، ويأتي بالباقي، ويسجد سجدتين بعد السَّلام.
وإذا شَكَّ ولم يترجَّح عنده شيء، يأخذ بالأقل ويسجد سجدتين قبل السَّلام" انتهى.
والله أعلم.