الحمد لله.
أولًا:
لا بد أن نقدم بين يدي الجواب بأمور:
1- الصحابة لم يخترعوا رسمًا معينًا قصدوا به كتابة القرآن الكريم، بل كتبوه على حسب ما تعلموه من معلميهم.
2- الرسم الذي كتب به الصحابة كان مجردًّا من أية علامة؛ لأنها غير موجودة أصلًا، إذ لم يكن في عصرهم نقط ولا شكل، ولا أي من علامات الضبط التي أُلحِقت فيما بعد، شأنه في ذلك شأن الكتابة في هذا العصر، كما هو واضح من موازنة خط المصحف بما وُجِد من خطوط تعود إلى هذا الزمن.
3- أن الأصل في القرآن الاعتماد على المسموع المحفوظ في الصدور، لا المرسوم، فالقراءة لما سُمع أصل، والرسم تبعٌ، ومن المعلوم أنه لا يمكن التطابق التامُّ بين نطق بعض الكلمات ورسمها في جميع لغات العالم، بل يدخل فيها الزيادة والنقص وغيره مما يدخل في علم الإملاء.
لذا فإن خلوَّ رسم مصاحف الصحابة من النقط والشكل وغيرها لم يكن مشكلًا عندهم، لأنهم يحفظون القرآن في صدورهم، ولا يعتمدون على الرسم أوَّلًا، وإنما جاء الرسم لضبط صورة الكلام، لا للانطلاق منه إلى القراءة.
4- أن هذا الرسمَ الذي كان متعارفًا بينهم كان فيه اختلافٌ، يدخل في اختلاف التنوع في طريقة الرسمِ.
5- يقوم (رسم المصحف) على مجموعة من القواعد التي استنبطها العلماء من رسم الصحابة، وهذه القواعد:
1 - الحذف، مثل حذف الألف في مواطن كثيرة (يَٰٓأَيُّهَا)، وقد حُذِفت الألف بعد الياء.
2 - الزيادة، مثل زيادة الألف في مواطن، مثل زيادتها بعد (لا) من قوله تعالى: لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ.
3 - الهمز، مثل (يؤمنون، بئس، سأل)، وهي من أوسع أبواب الضبط وأشكلها.
4 - البدل، مثل كتابة الواو في الصلوة بدلًا عن الألف (الصلاة).
5 - الوصل والفصل، ويقع له أمثلة كثيرة في ألفاظ متغايرة، مثل لفظة (إنما) تكتب مفصولة وموصولة، ففي قوله تعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآَتٍ [الأنعام: 134] كُتِبت مفصولة، وفي قوله تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات: 5] كُتِبت موصولة.
6 - ما فيه قراءتان، وكتب على إحداهما، مثل قراءة سكارى بالألف ودونها في قوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج: 2]، فهي تحتمل الألف وعدمها.
انظر:
"المحرر في علوم القرآن" د. مساعد الطيار(222 - 227).
ثانيًا:
ولا بد أن تعلم أن المصاحف التي أرسلها الصحابة للأمصار متعددة، قال الجعبري: "خمسة متفق عليها، وثلاث مختلف فيها".
فأمر عثمان رضي الله عنه:
1- زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني.
2- وبعث عبد الله بن السائب مع المكي.
3- والمغيرة بن شهاب مع الشامي.
4- وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي.
5- وعامر بن عبد القيس مع البصري.
وبعث مصحفًا إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، فلم نسمع لهما خبرًا، ولا علمنا من أنفذ معهما.
وهذا العدد هو المتعارف عليه عند علماء الرسم لأمرين:
أولهما: أن النقل ورد عن هذه المصاحف في كتب رسم المصحف كالمقنع، لأبي عمرو الداني، والتنزيل، لأبي داود، وغيرهما.
الثاني: أنه قد عُرف من أرسله سيدنا عثمان مع هذه المصاحف، بخلاف غيرها.
ورجح هذا العدد الشيخ رضوان المخللاتي، فقال: وعدة المصاحف على معتمد الأقوال فيها ستة، كما يشهد له الاستقراء، وهي المصاحف التي ورد النقل عنها، ومراجعة المصاحف عليها، وتأملها كثير من العلماء، فوصفوا هجاء حروفها بأبلغ وصف وأبينه.
إذًا فعدد المصاحف التي نسخت في عهد عثمان رضي الله عنه ستة على الأرجح، وهي:
1- المصحف الإمام، وهو الذي اتخذه عثمان بن عفان رضي الله عنه لنفسه، وحفظه عنده.
2- المصحف المدني العام، وقد جعله عثمان بن عفان بين أهل المدينة، وعنه يروي نافع بن أبي نعيم.
3- المصحف المكي، وروى عنه أيوب بن المتوكل، ويحيى بن المبارك اليزيدي، وأبو حاتم سهل بن محمد، وخلف بن هشام البزار، وغيرهم.
4- المصحف الشامي، ويذكره علم الدين السخاوي في مواضع كثيرة في شرحه على العقيلة للشاطبي، ورآه الحافظ ابن كثير، والحافظ ابن الجزري، في الجامع الأموي بدمشق، وورد عنه النقل في كتاب المقنع لأبي عمرو الداني، وكتاب مختصر التبيين لهجاء التنزيل في مواضع كثيرة.
5- المصحف الكوفي، وورد النقل عنه في مواضع كثيرة في كتاب المقنع لأبي عمرو الداني، وفي كتاب مختصر التبيين لهجاء التنزيل لأبي داود، وغيرهما.
6- المصحف البصري، وورد النقل عنه في مواضع كثيرة في كتاب المقنع لأبي عمرو الداني، وفي كتاب مختصر التبيين لأبي داود، وغيرهما.
أما مصحف اليمن، ومصحف البحرين، فلم يرد عنهما نقل، ولم أجد لهما نقولا في كتب الرسم، ولم يجر لهما ذكر عند أهل الرسم.
وعندما وصلت المصاحف إلى الأمصار، سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها حرفًا بحرف، وكلمة بكلمة، ثم مقابلة مصاحفهم عليها، وأصبحت أصولًا تُقتدى، وحرقوا ما عداها، وترك الصحابة مصاحفهم، واتبعوا المصحف الإمام.
انظر: "رسم المصحف"، للشيخ د. غانم قدوري الحمد، ومقدمة "مختصر التبيين لهجاء التنزيل"، للدكتور أحمد شرشال، (1/ 129 - 252)، و"المحرر في علوم القرآن"، د. مساعد الطيار، (223 - 267)، و"المدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف"، د. حازم حيدر: (88 - 121).
ثالثًا:
الكتبة للمصحف العثماني لم يقصدوا دائمًا استيعاب مرسوم القراءات، ففي أحيان ينشرون اختلاف القراءات في المصاحف كقراءة (وصى، وأوصى)، (تجري تحتها، تجري من تحتها)، وفي أحيان أخرى يكتفون برسم واحد فقط، كالأمثلة (الصراط، بضنين، لأهب).
فقد رسم في جميع المصاحف لفظ (بضنين) بالضاد أخت الصاد، والقرأة على وجهين فيها بالضاد، وبالظاء التي لم يرد فيها رسم في المصاحف.
ورسم في جميع المصاحف لفظ (الصراط) بالصاد، وقد قرئ قوله تعالى: ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ بالصاد، والسين، وإشمام الصَّاد زايًا.
ورسم في جميع المصاحف لِأَهَبَ لَكِ ، وقد قرئ بالياء (ليهب).
كما يلاحظ أمر مهم للغاية، وهو أن رسم الكلام في وقت الصحابة كان مجردًا من النقط والشكل والضبط، وهذه إنما حدثت بعدهم، فمن يمثل في مسألة كتابتهم بأنهم رسموا في مصحف (فتبينوا) وفي آخر (فتثبتوا) أو في مصحف (ننشرها)، وفي آخر (ننشزها) = فقد أوهم، وغفل عن هذه الحقيقة، وهذا المثال لا يصلح لما ذهب إليه، والله أعلم.
انظر : "المحرر في علوم القرآن" (161)، وينظر للأهمية: "التحرير والتنوير" (30/ 160).
رابعًا:
الاختلاف في الرسم نوع من الاختلاف بين القراءات ، والاختلاف بين القراءات القرآنية، هو اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض .
والاختلاف في القراءات يقع على ثلاثة أنواع، يقول الإمام الداني: " أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد .
والثاني: اختلاف اللفظ والمعنى جميعا، مع جواز أن يجتمعا في شيء واحد، لعدم تضادّ اجتماعهما فيه .
والثالث: اختلاف اللفظ والمعنى، مع امتناع جواز أن يجتمعا في شيء واحد، لاستحالة اجتماعهما فيه "، "جامع البيان" (1/ 120).
وتعدد القراءات يستفاد منه تعدد المعاني، إذ كل قراءة زادت معنى جديدًا لم تبينه أو توضحه القراءة الأخرى، وبهذا اتسعت المعاني بتعدد القراءات، إذ تعدد القراءات يقوم مقام تعدد الآيات القرآنية .
والاختلاف والتنوع في القراءات القرآنية يشبه إلى حدٍ كبير ظاهرة تكرار القصص القرآني، فكل آية أو واقعة تبين معنى جديدًا لم تبينه الآية أو الواقعة السابقة .
خامسًا:
يقول الشيخ "الجديع" "والمصاحف العثمانيّة قد اختلفت في رسمها في شيء قليل، وكلّه كلام الله تعالى، كقوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24]، هكذا في مصاحف مكّة والبصرة والكوفة، وبه قرأ جميع السّبعة، غير نافع وابن عامر، فهذان قرآ على ما في مصاحف المدينة والشّام، وذلك بغير (هُوَ)، وكقوله: (وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشّمس: 15]، و (فلا يخاف عقباها).
قال الإمام أبو عبيد: هذه الحروف الّتي اختلفت في مصاحف الأمصار كلّها منسوخة من الإمام الّذي كتبه عثمان، رضي الله عنه، ثمّ بعث إلى كلّ أفق ممّا نسخ بمصحف، ومع هذا؛ إنّها لم تختلف في كلمة تامّة، ولا في شطرها، إنّما كان اختلافها في الحرف الواحد من حروف المعجم، كالواو والفاء والألف وما أشبه ذلك، إلّا الحرف الّذي في الحديد وحده، قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، فإنّ أهل العراق زادوا على ذينك المصرين (يعني المدينة والشّام): (هو) … فليس لأحد إنكار شيء منها ولا جحده، وهي كلّها عندنا كلام الله.
وجائز أن يكون الوجه في اختلاف الرّسم لهذه الحروف هو:
أنّه حين كتبت أصولها جميعا بإشراف أمير المؤمنين عثمان، من قبل أمناء الوحي زيد بن ثابت وإخوانه، رأوا إمكان تضمين تلك المصاحف بعض الحروف المسموعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممّا تعذّر عليهم رسمه جميعا في مصحف واحد، ففرّقت فيها لتبقى محفوظة على الأمّة، كبعض صور اختلاف الأحرف السّبعة الّتي نزل عليها القرآن.
والمقصود هنا:
أنّ من شرط صحّة القراءة أن تكون موافقة لرسم واحد من هذه المصاحف الّتي عليها قراءات الأئمّة المعتمدين"، انتهى من "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" (ص 187 - 188).
والله أعلم.