الحمد لله.
قال البغوي رحمه الله تعالى:
" وقال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي تغتسل من المحيض قد تجردت، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد، وضيء الوجه، جعد الشعر سوي الخلق، فذلك قوله:
( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) يعني: جبريل عليه السلام ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا )" انتهى من "تفسير البغوي" (5/223).
لم نقف على إسناد هذه الرواية.
ولو صح الإسناد إليها، فتفسير عكرمة إنما أخذه من عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وفي مثل هذه الأخبار تقع عنده بعض الإسرائيليات.
ويتقوى أن هذا التفسير من جملة الإسرائيليات، بأنه مروي نحوه عن السدّيّ.
روى الطبري في "التفسير" (15/483)، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حدثنا عَمْرٌو، قَالَ: حدثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: "خَرَجَتْ مَرْيَمُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ؛ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( فَانْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا): فِي شَرْقِيِّ الْمِحْرَابِ".
والسدّيّ له اهتمام بنقل هذه الإسرائليات.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) رواه البخاري عن عبد الله " انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/8).
وظهر لجمع من المفسرين عدم قوة هذا القول المروي، فمالوا إلى أنها احتجبت للعبادة.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى:
" قال السدي: انتبذت لتطهر من حيض، وقال غيره لتعبد الله. وهذا أحسن، وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته، والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك" انتهى من "المحرر الوجيز" (4/9).
وتبعه القرطبي في هذا التحسين. "تفسير القرطبي" (13/428).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) أي: سترا ومانعا، وهذا التباعد منها، واتخاذ الحجاب، لتعتزل، وتنفرد بعبادة ربها، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل لله تعالى، وذلك امتثال منها لقوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)" انتهى من "تفسير السعدي" (ص 491).
ولعل مما يرجح هذا القول؛ هو أن الملائكة مكرمون، وأماكن مخاطبتهم لعباد الله الصالحين إنما هي الأماكن المطهرة، وليس المغتسل، فخاطب الملك الكريم مريم عليها السلام، وهي محتجبة عن الناس في محرابها، كما خاطبت زكرياء عليه السلام في محرابه، حيث قال الله تعالى:
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران/38–39.
والله أعلم.