ما الفرق بين كلمة العدل في سورة النساء (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وبين الحق في قول الله تعالي لداود في سورة ص: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى)؟
الحمد لله.
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا النساء/58.
"والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به: هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به"، انتهى من "تفسير السعدي" (183).
وقال "ابن تيمية": "ولهذا وجب على كل من حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل، لقوله تعالى: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، فليس لحاكم أن يحكم بظلم أبدًا، والشرع الذي يجب على حكام المسلمين الحكم به: عدل كله، ليس في الشرع ظلم أصلًا، بل حكم الله أحسن الأحكام"، انتهى من "منهاج السنة النبوية" (5/128).
وهذا الحكم بـ"العدل"، هو نفسه الحكم بـ"الحق" الذي أمر الله نبيه دواد عليه السلام أن يحكم به في الناس، قال الله تعالى: يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
قال ابن كثير رحمه الله: "هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله.
وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد"، انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 62 - 63).
قال "القاسمي": "فهذا هو المراد من قوله: "(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)؛ يعني: لا بد من حاكم بين الناس بالحق؛ فكن أنت ذلك" انتهى من "تفسير القاسمي" (8/ 254).
وقال الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: "والحق: هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضا، وتصرفاتهم في خاصتهم وعامتهم.
ويتعين الحق بتعيين الشريعة". انتهى من "التحرير والتنوير" (23/243).
ولأجل تقرر ذلك، وأن "الحق" الذي يحبه الله ممن يحكم، هو نفسه "العدل" الذي أمر به؛ جمع الإمام الشافعي، رحمه الله، بين الآيتين في تقرير ذلك الأصل العظيم، وهو أن "الحق" الذي جاء به الكتاب والسنة، هو "العدل" الذي أمر الله بإقامته في عباده. قال رحمه الله:
قال الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى:
" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) ص/26، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، إِلَى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وَقَالَ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وَقَالَ: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) .
فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَالنَّاسِ، إذَا حَكَمُوا: أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.
وَالْعَدْلُ: اتِّبَاعُ حُكْمِهِ الْمُنَزَّلِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
وَوَضَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دِينِهِ، وَأَهْلِ دِينِهِ : مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَفَرَضَ طَاعَتَهُ فَقَالَ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ، وَقَالَ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الْآيَةَ، وَقَالَ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الْآيَةَ.
فَعُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ: كِتَابُ اللَّهِ، ثُمَّ سُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انتهى، من "الأم" للشافعي: (7/98).
والحاصل:
أن الحق الذي أمر الله نبيه داود عليه السلام بالحكم بين الناس به، هو العدل الذي افترضه على الحكام قاطبة، ولم يستثن أحدا من الحكم فيه بالعدل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " العَدْل: واجِبٌ لِكُلِّ أحَدٍ عَلى كُلِّ أحَدٍ فِي كُلِّ حالٍ. والظُّلْمُ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، لا يُباحُ قَطُّ بِحالٍ" انتهى من "منهاج السنة النبوية" (5/126).
ولعل المخالفة بين الكلمتين من باب التنويع في أداء المعنى الواحد، ليلتفت الناس إلى أهميته.
والله أعلم.