في تركيا يتبع الكثيرون المذهب الحنفي، أيضا يضعون أيديهم على الأرض في السجدة يعني الذراعين، فهل هذا صحيح في المذهب الحنفي؟ وكثير من النساء يفعلن هذا، وغير ذلك من الأمور كالتلفظّ بالنية، الصلاة بسرعة والركوع أقلّ من الرجال، لا أعرف الطريقة الصحيحة للقيام بالدعوة، كما إنني لا أريد أن أكون مثل شرطة الحرام، أقول إنّ هذا حرام وأُخيف الناس من المسجد، لكن لا يكاد يكون هناك وقت لأجلس فيه، وأشرح بالتفصيل، الأئمة يروّجون للبدعة كالتلفظّ بالنية، هل يمكن أن تنصحوني بكيفية القيام بالدعوة؟ وهل مزاعمهم عن المذهب الحنفي صحيحة؟
الحمد لله.
أولا:
نص جماعة من الحنفية على أن المرأة تفترش ذراعيها في السجود، خلافا للرجل فإنه ينهى عن ذلك، والعلة أن الافتراش أستر للمرأة.
قال ابن عابدين في حاشيته (1/644) عند ذكره مكروهات الصلاة: "(قوله: وافتراش الرجل ذراعيه إلخ) أي بسطهما في حالة السجود، وقيّد بالرجل اتباعا للحديث المار آنفا، ولأن المرأة تفترش" انتهى.
ونقل عن صاحب الدر المختار أن المرأة تخالف الرجل في مسائل منها: "وتفترش ذراعيها". "حاشية ابن عابدين" (1/504).
والصواب أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في السجود، كما بينا في جواب السؤال رقم (38162)
والافتراش منهي عنه، كما روى مسلم (498) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ... وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ".
وروى البخاري (822) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: " وأما افتراش السبع- الذي جاء فيه النهي-، فهو: أن يلصق الرجل ذراعيه بالأرض في السجود، فكذلك تفعل السباع" انتهى، من "غريب الحديث" (4/65).
وقال ابن الملقن، رحمه الله: " ( وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ): هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود.
والسنة: أن يرفعهما، ويكون الموضوع على الأرض كفيه، وإنما نهى عن ذلك لأنها صفة الكاسل والمتهاون بحاله، مع ما فيه من التشبه بالسباع والكلاب، كما نهى عن التشبه بهما في الأفعال." انتهى، من "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (3/50).
وكثير من الفقهاء يستحبون أن تضم المرأة نفسها في السجود لأنه أستر لها؛ لكن دون افتراش ذراعيها.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/259):
"(والرجل والمرأة في ذلك سواء، إلا أن المرأة تجمع نفسها في الركوع والسجود، وتجلس متربعة، أو تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها).
الأصل: أن يثبت في حق المرأة من أحكام الصلاة ما يثبت للرجال؛ لأن الخطاب يشملها، غير أنها خالفته في ترك التجافي، لأنها عورة، فاستحب لها جمع نفسها، ليكون أستر لها، فإنه لا يؤمن أن يبدو منها شيء حال التجافي، وكذلك في الافتراش، قال أحمد: والسدل أعجب إلي. واختاره الخلال.
قال علي رضي الله عنه: إذا صلت المرأة فلتحتفز، ولتضم فخذيها، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة" انتهى.
والافتراش المذكور في كلام ابن قدامة، وغيره من الحنابلة: هو أن تفترش المرأة في جلستها كما يتفرش الرجل؛ فيرون أنها تفارق الرجل في ذلك، وأن الافتراش في التشهد مستحب في حق الرجل، لكنه غير مستحب في حقها.
قال أبو يعلى في "التعليقة" (1/126): " .. أن التجافي في الركوع، والسجود، والتورك، والافتراش، مستحب في حق الرجل، وتركه غير مستحب، ومع هذا، فهو غير مستحب في حقها." انتهى.
وأكثر الفقهاء على أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك أيضا.
قال ابن الملقن رحمه الله : " ومذهب الشافعي: جلوس المرأة كجلوس الرجل.
" وذهب بعض السلف إلى أن سنة المرأة التربع في الجلسات، سواء فيه الفريضة والنافلة، وخصه بعضهم بالنافلة، حكاه عنهما القاضي.
ومذهب الجمهور: أنه لا فرق.
وقد وردت هيئة التورك في بعض الأحاديث، لكن ليست لها قوة في الصحة: كأحاديث الافتراش والتورك" انتهى من "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (3/47).
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله: ما حكم وضع المرفقين على الأرض أثناء السجود ؟ .
فأجاب: " هذا مكروه ولا ينبغي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) ( ونهى عن افتراش كافتراش السبع ) .
فالسنة أن يرفع مرفقيه ، سواء الرجل أو المرأة ؛ يرفع ذراعيه عن الأرض، ويعتمد على كفيه حال السجود، هذه السنة." انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (9/240).
ثانيا:
لا يشرع التلفظ بالنية للصلاة وغيرها من العبادات؛ لعدم وروده، والأصل في العبادة التوقيف.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية :عن النية في الدخول في العبادات من الصلاة وغيرها ، هل تفتقر إلى نطق اللسان ؟ مثل قول القائل : نويت أصلي ، ونويت أصوم ؟
فأجاب :
" نية الطهارة من وضوء، أو غسل أو تيمم ، والصلاة والصيام، والزكاة والكفارات، وغير ذلك من العبادات؛ لا تفتقر إلى نطق اللسان باتفاق أئمة الإسلام، بل النية محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غلطا خلاف ما في قلبه فالاعتبار بما ينوي لا بما لفظ .
ولم يذكر أحد في ذلك خلافا، إلا أن بعض متأخري أصحاب الشافعي خرج وجها في ذلك، وغلطه فيه أئمة أصحابه.
ولكن تنازع العلماء هل يستحب اللفظ بالنية؟ على قولين: فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة ، والشافعي، وأحمد: يستحب التلفظ بها لكونه أوكد .
وقالت طائفة من أصحاب مالك ، وأحمد، وغيرهما: لا يستحب التلفظ بها؛ لأن ذلك بدعة لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من أمته أن يلفظ بالنية ولا علم ذلك أحدا من المسلمين، ولو كان هذا مشروعا لم يهمله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة .
وهذا القول أصح، بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين: أما في الدين فلأنه بدعة ، وأما في العقل فلأن هذا بمنزلة من يريد أكل الطعام فقال: أنوي بوضع يدي في هذا الإناء أني آخذ منه لقمة، فأضعها في فمي فأمضغها، ثم أبلعها لأشبع، فهذا حمق وجهل .
وذلك أن النية تتبع العلم ، فمتى علم العبد ما يفعل كان قد نواه ضرورة ، فلا يتصور مع وجود العلم به أن لا تحصل نية ، وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع ، بل من اعتاده فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبا يمنعه عن التعبد بالبدع ، وإيذاء الناس برفع صوته ، والله أعلم" انتهى من "الفتاوى الكبرى" (1/214).
والأحناف منهم من كره التلفظ بالنية، ومنهم من استحب ذلك، ورآه بدعة حسنة.
قال في "مراقي الفلاح" ص84: " ومن متعلقات القلب النية للإخلاص فلا يشترط لها النطق كالكفر بالنية. قال الحافظ ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح ولا ضعيف أنه كان يقول عند الافتتاح أصلي كذا ولا عن أحد من الصحابة والتابعين بل المنقول أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ، وهذه بدعة. اهـ. وفي مجمع الروايات: التلفظ بالنية كرهه البعض؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه أدب من فعله، وأباحه البعض لما فيه من تحقيق عمل القلب وقطع الوسوسة، وعمر رضي الله تعالى عنه إنما زجر من جهر به، فأما المخافتة به فلا بأس بها.
فمن قال من مشايخنا: إن التلفظ بالنية سنة: لم يرد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل سنة بعض المشايخ لاختلاف الزمان وكثرة الشواغل على القلوب فيما بعد زمن التابعين" انتهى.
وقال الطحطاوي في حاشيته عليه ص220: " قوله: "ومن متعلقات القلب النية" قال في الشرح: تنبيه: في اشتراط النطق بالتحريمة إشارة إلى أنه لا يشترط النطق بالنية لأنها من متعلقات القلب التي لا يشترط لها النطق، وقد أجمع العلماء على أنه لو نوى بقلبه ولم يتكلم بنيته فإنه يجوز اهـ. قوله: "بالنية" متعلق بمحذوف أي يثبت بالنية. قوله: "ولا عن أحد من الصحابة والتابعين" زاد ابن أمير حاج: ولا عن الأئمة الأربعة.
قوله: "وهذه بدعة" قال في البحر: فتحرر من هذه الأقوال: أنه بدعة حسنة عند قصد جمع العزيمة اهـ قال في الفتح، بعد قول الهداية إنه حسن لاجتماع عزيمته اهـ: وقد يفهم أنه لا يحسن لغير هذا القصد.
قوله: "لم يرد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم" قال العلامة نوح: وكذا القائل بالاستحباب لعله أراد به الأمر المحبوب في نظر المشايخ، لا في نظر الشارع؛ لأن المستحب قسم من السنة اهـ" انتهى.
ثالثا:
مسائل الخلاف إنما يكون الإنكار فيها ببيان الصواب دون شدة أو تعنيف، فإن استجيب لذلك فالحمد لله، وإن لم يستجب فلا يعاود الإنكار، ولا ينشغل المرء بذلك، والغالب أن المقلد لمذهب لن يتركه لنصيحة من مقلد مثله، فاحرصي على تأليف القلوب، وبيان العقيدة الصحيحة، واعتني ببيان أهمية الخشوع والطمأنية في الصلاة وفضل ذلك وأن هذا متفق على فضله لا ينازع فيه أحد.
والله أعلم.