الحمد لله.
أولا:
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إنما خرجت إلى العراق للمطالبة بدم عثمان، بالاقتصاص من قتلته، حتى ينكفَّ أهل الفتن، ويحدث الصلح بين المسلمين.
أما أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقد كان بالمدينة يومئذ ولم يكن بالعراق.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" لما قتل عثمان صبرا، سُقط في أيدي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم، وبايعوا عليا، ثم إن طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأم المؤمنين عائشة، ومن تبعهم رأوا أنهم لا يخلّصهم مما وقعوا فيه من توانيهم في نُصرة عثمان، إلا أن يقوموا في الطلب بدمه، والأخذ بثأره من قتلته، فساروا من المدينة بغير مشورة من أمير المؤمنين علي، وطلبوا البصرة." انتهى من "تاريخ الإسلام" (2/270).
ولم يرد في شيء من صحيح الأخبار أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قاتلت عليا، أو دعت إلى قتاله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبُلَّ خمارها.
وهكذا عامة السابقين؛ ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قَتَلَة عثمان، أهل الفتنة، وكان علي غير راضٍ بقتل عثمان، ولا معينا عليه، كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله. وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظنَّ طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم، فحملوا دفعا عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه، فحمل دفعا عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار" انتهى من "منهاج السنة" (4/ 316–317).
وقد سبق بسط هذا في جواب السؤال رقم: (193186)، فتحسن مطالعته لأهميته.
ثانيا:
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (21/512)، قال: حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - أي ابن عياش -، عَنْ جَحْشِ بْنِ زِيَادٍ الضَّبِّيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: " لَمَّا ظَهَرَ عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْجَمَلِ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ: ارْجِعِي إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى بَيْتِكَ، قَالَ: فَأَبَتْ، قَالَ: فَأَعَادَ إلَيْهَا الرَّسُولَ؛ وَاللهِ لَتَرْجِعَنْ، أَوْ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْك نِسْوَةً مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مَعهُنَّ شِفَارٌ حِدَادٌ يَأخُذْنَك بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ خَرَجَتْ".
هذا الخبر في سنده جَحْش بْن زِيَادٍ الضَّبِّيّ، وهو مجهول الحال لم يرد فيه توثيق معتبر.
فقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (2/253)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 550)، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا.
والمسلم عليه أن يقتدي بأئمة السلف في كيفية التعامل مع هذه الأخبار؛ فهذه الفتنة لما وقعت تعامل معها سلفنا الصالح بأن دققوا في الأخبار، فلم يقبلوا إلا أخبار من علمت عدالته وصدقه.
قال ابْنِ سِيرِينَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ" رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/15).
قال العلائي رحمه الله تعالى:
" وقول ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم".
قلت: لأن المبتدعة كذَبَت أحاديث كثيرة، تَشيد بها بدعتها، قال ابن عباس رضي الله عنه -لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه-: " قاتلهم الله؛ أي علم أفسدوا". رواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: كان ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين؛ يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي، ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب " انتهى من "جامع التحصيل" (ص69– 70).
فالحاصل؛ أنه لا يصح أن يخوض المسلم فيما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اعتمادا على أخبار لا يعلم حال بعض رواتها. خاصة وأن هذا الخبر في متنه نكارة؛ فما الذي دفع أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه إلى تهديد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأن يرسل إليها نساء محاربات مع سلاحهن؟! فمثل هذا يهدد به من هو خارج عن سلطانه ليس تحت قدرته، وأم المؤمنين رضي الله عنها بعد انتهاء وقعة الجمل كانت في سلطان علي رضي الله عنه ومعه أخوها، فلماذا يهددها؟! فكان يكفيه أن يرسلها إلى المدينة مع رفقة مأمونة؛ وهذا الذي قد حصل.
والله أعلم.