الحمد لله.
أولا:
الحرام: هو ما حرم الله ورسوله على العباد.
عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالجُبْنِ وَالفِرَاءِ؟
فَقَالَ: الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ. رواه الترمذي في "سننه" (1726) وقال: "حديث غريب" ورجح وقفه على "سلمان"، وكذا نقل عن البخاري: أن المحفوظ فيه "الوقف".
وقال عمر بن عبد العزيز، في خطبته لما ولي الخلافة:
(أيُّها النّاسُ، إنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ، ولا بَعْدَ كِتابِكُمْ كِتابٌ، ولا بَعْدَ سُنَّتِكُمْ سُّنَّةٌ ولا بَعْدَ أُمَّتِكُمْ أُمَّةٌ، ألا وإنَّ الحَلالَ ما أحَلَّ اللَّهُ فِي كِتابِهِ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ حَلالٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ألا وإنَّ الحَرامَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتابِهِ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ حَرامٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ) . نقله الشاطبي في "الاعتصام" (1/144).
وينظر للفائدة: "جامع العلوم والحكم" (2/158-159).
ثانيا:
عرف العلما الحرام بأنه: ما نهى الشارع عنه نهيا جازما.
قال الطوفي رحمه الله:
" قوله: الحرام ضد الواجب ، لما ذكر الاقتضاء الفعلي، وهو الأمر بقسميه، وهما الواجب والمندوب، أخذ هنا يبين حكم اقتضاء الكف، وهو النهي بقسميه، وهما الحرام والمكروه، ثم قسم التخيير، وهو المباح إن شاء الله تعالى.
فالحرام ضد الواجب، لأن الواجب مأمور به على الجزم، مثاب على فعله، معاقب على تركه.
فالحرام إذًا: منهي عنه على الجزم، مثاب على تركه، معاقب على فعله.
قال الجوهري: الحرام ضد الحلال.
قلت: هو مأخوذ من الحرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه.
قوله: وهو يعني الحرام ما ذم فاعله شرعا كما أن الواجب ما ذم تاركه شرعا. " انتهى، من "شرح مختصر الروضة" (1/359).
وقال د. عبد الكريم زيدان، رحمه الله:
" تعريف الحرام:
الحرام لغة: الممتنع فعله، من حرم من بابي قرب وتعب، وسُمِع: أحرمته بمعنى حرمته، والممنوع يسمى حرامًا تسمية بالمصدر.
وفي الاصطلاح نذكر تعريفين له، أحدهما: بالحد وبيان الماهية، والثاني: بالرسم وبيان الصفات.
التعريف الأول:
الحرام هو ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام.
1 - ما: اسم موصول، صفة لفعل المكلف.
2 - طلب الشارع تركه: أي: الابتعاد عنه وعدم القيام به، ويدخل فيه الحرام والمكروه؛ لأن الشارع طلب تركهما، ويخرج من التعريف المباح والمندوب والواجب لعدم طلب تركها من الشارع.
3 - على وجه الحتم والإلزام: فيخرج المكروه، ويبقى الحرام.
ويُعرف طلب الكف الحتمي بالصيغة التي تدل عليه عن طريق الأساليب الكثيرة المفيدة للتحريم.
التعريف الثاني:
عرف البيضاوي الحرام بالصفة فقال: هو ما يذم شرعًا فاعله.
1 - ما: اسم موصول صفة لفعل المكلف، ويشمل كل أفعال المكلفين التي يتعلق بها الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، ويخرج من التعريف ما ليس بفعل المكلف.
2 - يذم شرعًا فاعله: قيدٌ في التعريف، فيخرج الواجب؛ لأن الذم فيه على الترك، ويخرج المندوب والمكروه والمباح؛ لأنه لا ذم فيه أصلًا، لا على الفعل ولا على الترك، ويبقى المحرم فقط، والذم لا يكون إلا من الشرع، وفعل الحرام يشمل كل ما يصدر عن المكلف من قول محرم كالغيبة والقذف، أو فعل كالسرقة والقتل، أو من عمل القلب كالحقد والحسد، والذم هو اللوم والاستنقاص الذي يصل إلى درجة العقاب.
وأضاف بعض العلماء على هذا التعريف قولهم: "ويمدح تاركه" للمقابلة مع تعريف الواجب.
ويرادف المحرمَ: المحظورُ والمعصية والذنب والممنوع والقبيح والسيئة والفاحشة والإثم والمزجور عنه والمتوعَّد عليه". انتهى، من "الوجيز في أصول الفقه" (349-350).
فتبين بذلك: أن "الذم"، و"العقاب": ليس داخلا في حقيقة "الحرام"، ولا هو حده الحقيقي؛ وإنما هو علامة عليه، أو أثر من آثاره.
قال ابن القيم: "ويستفاد التحريم من: النهي والتصريح بالتحريم، والحظر والوعيد على الفعل، وذم الفاعل وإيجاب الكفارة بالفعل.
"نقله الجيزاني" في "معالم أصول الفقه" (305).
وأما عن الأساليب التي تدل على أن الفعل المعين (حرام)، في الكتاب والسنة، فيقول د. عبد الكريم زيدان، رحمه الله:
" الأساليب التي تفيد التحريم في الكتاب الكريم والسنة الشريفة كثيرة، أهمها:
1 - أن يرد الخطاب صريحًا بلفظ التحريم، وما يشتق منه، مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء: 23]، وقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، وقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة: 96]، وقوله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام: 145]، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه وماله وعرضه".
2 - صيغة النهي، لأن النهي يفيد التحريم، مثل قوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الأنعام: 151]، وقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152]، ومن ذلك ما ورد بلفظ النهي مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90]، وهذا القسم أكثر الأساليب استعمالًا للدلالة على التحريم.
3 - طلب اجتناب الفعل، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) [المائدة: 90]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات"؛ وهذا أمر يفيد وجوب الترك من حيث اللفظ، ويفيد تحريم الفعل من حيث المعنى.
4 - استعمال لفظ "لا يحل"، مثل قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء: 19]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" .
5 - ترتيب العقوبة على الفعلِ سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة أم فيهما، مثل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4]، فالقذف حرام لترتب عقوبة الجلد عليه، وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا [النساء: 93]، فالقتل حرام لتوعد فاعله بالنار.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور: 19]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) [النساء: 10]، فأكل مال اليتيم حرام لتشبيهه بأكل النار وتهديده بالعذاب يوم القيامة.
6 - كل لفظ يدل على إنكار الفعل بصيغة مشددة، مثل غضب اللَّه، حرب اللَّه، لعن اللَّه، والتحذير من الفعل، مثل: "إياكم والجلوس على الطرقات"، وكذا وصف الفاعل بالنفاق أو الكفر أو الفسق، مثل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] .. الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] ... الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47] ومثل نفي الإيمان عنه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لا يؤمن -ثلاثًا- الذي لا يأمن جاره بوائقه".
ثالثا:
إذا تبين أن "الذم" و"العقاب" ليس من "حقيقة" الحرام، أو حده الأصلي، وإنما هو أثر من آثاره، وعلامة من علاماته؛ فينبغي أن يعلم أنهما لا يلازمان فعل "الحرام" دائما؛ فقد يتخلفان عن "الفاعل" المعين، لفوات شروط العقاب، والذم في حقه.
قال الزركشي رحمه الله: " تنبيه: الحرمة ليست ملازمة للذم والإثم، لا طردا ولا عكسا.
فقد يأثم الإنسان على ما ليس بحرام، كما إذا أقدم على زوجه يظنها أجنبية، وقد يحرم ما ليس فيه إثم، كما إذا أقدم على أجنبية يظنها زوجته.
وتحقيق ذلك: أن الحل والحرمة تابعان لمقاصد الشريعة، والله تعالى أحل الأبضاع، والأموال، والأزواج، في أحوال، بشروط، وحرمها بدون ذلك.
غير أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها؛ جعل الإثم يتوقف على العلم، فإذا أقدم العبد على فعل يعتقده حلالا، وهو حرام: لا إثم عليه، تخفيفا على العبد. وإذا أقدم على فعل يظنه حراما، وهو حلال: عاقبه على الجرأة.
فمعنى قولنا: هذا الفعل حرام: أن الشارع له تشوف إلى تركه.
ومعنى قولنا: حلال خلاف ذلك." انتهى، من "البحر المحيط" (1/256).
رابعا:
بناء على ما سبق؛ فإذا وقع الفاعل المعين في (الحرام) الذي حرمه الله على عباده؛ لكنه كان جاهلا بتحريم ذلك، أو مضطرا إليه، أو مكرها عليه، أو نحو ذلك من الأعذار، وموانع لحوق الوعيد؛ كان ذلك الفعل المعين حراما في حقه، بمعنى أن الله حرمه، لا بمعنى أنه يأثم بوقوعه فيه، أو يعاقب عليه.
وقد يقال: إن هذا الفعل، ليس (حراما) في حقه، إذا وقعه فيه معذورا؛ والأمر في ذلك: لفظي، قريب. فعلى ذلك يفرق بين: "الحرام" على جهة العموم، وهو ما حرمه الله على عباده، والحرام في حق الشخص المعين، وهو من وقع فيما نهى الله عنه، ولم يكن له عذر في ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها أم لا تلزم أحدا إلا بعد العلم؟ أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة؟
هذا فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد. ذكر القاضي أبو يعلى الوجهين المطلقين في كتاب له، وذكر هو وغيره الوجه المفرِّق في أصول الفقه، وهو: أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ. وخرّج أبو الخطاب وجها في ثبوته.
ومن هذا الباب: من ترك الطهارة الواجبة ولم يكن علم بوجوبها، أو صلى في الموضع المنهي عنه قبل علمه بالنهي؛ هل يعيد الصلاة؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد.
والصواب في هذا الباب كله: أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/ 226)، وينظر أيضا: "مجموع الفتاوى" (11/ 407).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
" وإذا تبين هذا؛ فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم، مثل أن لا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل: لم يكن مأمورا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل؛ بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة، وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة؛ فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه، وبه أمروا إذ ذاك، وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " رواه مسلم عن أبي هريرة في حديث حسن السياق. وقوله: " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد.
ولو أمكنه العلم به دون العمل؛ لوجب الإيمان به علما واعتقادا دون العمل." انتهى، من "مجموع الفتاوى" (12/497). وينظر أيضا: "مجموع الفتاوى" (20/61).
ومن ثبوت الخطاب: ثبوت الوجوب بحيث يلزمه القضاء، وثبوت التحريم بحيث تلزمه العقوبة.
فيفرق بين من تمكن من العلم، ومن لم يتمكن منه.
فمن تمكن من العلم، ثبت في حقه الخطاب، ولم يكن معذورا، ومن لم يتمكن من العلم لم يثبت في حقه الخطاب ولا يقال إنه ارتكب محرما وإن كان الفعل محرما في الأصل.
ومن كان يعيش بين المسلمين فإنه يتمكن من معرفة المحرمات الظاهرة كالتبرج، فيثبت في حقه الخطاب ولا يكون معذورا.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قوله: عالمٍ بالتحريم خرج به الجاهل بالتحريم، فهذا لا حد عليه، ولكن كيف نعلم أنه جاهل، أو عالم بالتحريم؟ لأننا إذا قلنا: يشترط أن يكون عالماً بالتحريم، صار كل واحد من الناس يقول: إنه ليس عالماً بالتحريم، ويقول: ما علمت أن السرقة حرام، وما علمت أن الزنا حرام، فهنا يُنْظَر، إن كان قد عاش في بلاد الإسلام، فإن دعواه الجهل بالأمور الظاهرة لا تقبل، ولا تسمع منه، وأما إذا كان حديث عهد بالإسلام، أو كان ناشئاً في بادية بعيدة، لا يعرف شيئاً عن أحوال المسلمين، فإننا نقبل منه دعوى الجهل، فإذا كان مثله يجهله قبلنا دعواه بالجهل" انتهى من "الشرح الممتع" (14/ 212).
والله أعلم.